إيران.. التمسكن ثم التمكّن واللعب على المكشوف!

23 مارس 2022
+ الخط -

التمسكن ثم التمكّن، وصولاَ إلى اللعب على المكشوف، هذا هو جوهر "اللحظة" الإيرانية في أحدث تجلياتها، وقد حملتها تحولاتٌ إقليمية ودولية غير محسوبة، وأرست دعائمها سياسةٌ إيرانيةٌ حكيمة وصبورة. علينا الاعتراف بذلك، وقد شكّل وصول الديمقراطيين إلى مركز القرار في أميركا على أنقاض سياسات دونالد ترامب الشعبوية المعادية لإيران، واهتمام الرئيس جو بايدن بمسألة العودة إلى "الاتفاق النووي" الدعامة الأولى لهذه اللحظة التاريخية، تبعتها خطوات تخفيف الضغوط الدولية على طهران، والإفراج عن ملايين الدولارات من الأموال الإيرانية المجمّدة من دول أوروبا، وصولاً إلى تطبيع العلاقات والعودة إلى الاتفاق النووي الذي أصبح جاهزاً للتوقيع في صيغته النهائية، والذي ستجد فيه إيران ما يتيح لها إطلاق يدها في التعامل مع محيطها الإقليمي على النحو الذي رسمته استراتيجيتها الهادفة إلى تحقيق مشروعها "الثوري" في المنطقة.

وكانت تمكّنت، في الفترة السابقة، من أن تؤسّس أرضية ذات فعل للوصول إلى "اللحظة" التي تنشدُها، وسط ضباب الحصار والعقوبات، وتعاملت مع ما يدور من حولها بمزيجٍ من الدبلوماسية والقوة الخشنة معاً. واستطاعت إنجاز خطواتٍ عريضة، حقّقت من خلالها أهدافاً أساسية مرتبطة باستراتيجيتها التي لا تتورّع عن إعلانها: تقوية الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة وتطويرها بما يضيف إلى قدرتها على الردع سلاحاً فعالاً، وزيادة إمكاناتها على تخصيب اليورانيوم إلى ما يقرب من 60% من الكتلة اللازمة لإنتاج سلاح نووي، مع تعهدها بالعودة إلى مستوى الـ20% إذا ما تم التوقيع على الاتفاق، وزيادة وتيرة إنتاج النفط والغاز وتصديرهما، رغم العقوبات والاستعداد لما بعد الاتفاق، وإنشاء "جيوش" قادرة على الدفاع عن مصالح "الجمهورية الإسلامية" في عواصم عربية، وتأهيل هذه "الجيوش" سياسياً وعقائدياً، والعمل على إدخالها في العملية السياسية في أماكن وجودها أذرعاً نافذة تسعى إلى بلورة أنظمة حاكمة، على غرار نظام قم، وربط هذا المنهج بالعقيدة المذهبية، وتحويل السفارات والهيئات الدبلوماسية الإيرانية القائمة في العواصم العربية إلى أدوات للتدخل في مؤسسات البلد المقيمة فيه على نحو أو آخر، والعمل على إحداث تغييراتٍ ديموغرافيةٍ وسكانيةٍ في المدن العربية عبر مليشياتها ووكلائها النافذين فيها، وبما يخدم مشروعها العرقي الطائفي المعلوم، وما يعنيه ذلك أيضاً من استهدافٍ للمشروع العربي الذي لا يزال يمتلك بعض الحياة.

تكتسب "اللحظة" الإيرانية مزيداً من الراهنية، وتشكّل اعترافاً باعتبار إيران قوة إقليمية فاعلة ومؤثرة، حتى في القرارات الدولية

اكتسبت خطوات طهران هذه فاعليتها في غياب استراتيجية عربية للردّ والردع، وفي تجاهل الدول العربية ما يجري، أو على الأقل توصل الحكام العرب إلى قناعةٍ مستجدّة مفادها بأن لا بد من القبول بالأمر الواقع ومدّ اليد إلى إيران، والتصالح معها على قواعد الجيرة والدين، من دون اشتراطات، مع أنّ هذه القناعة غير متوفرة لدى الطرف الآخر، بل أكثر من ذلك ربما يعدّ هذا الطرف السلوك العربي نوعاً من الجبن والتخاذل والتراجع المهين.

ومعطوفٌ على ذلك ما تردّد أنّ واشنطن سوف تستجيب للمطلب الإيراني برفع اسم "الحرس الثوري" من قائمة المنظمات التي صنفتها، في السابق "منظمات إرهابية" إذ ستصبح في نظر العالم مؤسساتٍ عسكريةً اعتيادية، تخضع لقوانين بلد إنشائها، وهو (إيران)، وهو المطلب الذي عدّته طهران متمماً للاتفاق المنتظر. وفي هذا، تكتسب "اللحظة" الإيرانية مزيداً من الراهنية، وتشكّل اعترافاً باعتبار إيران قوة إقليمية فاعلة ومؤثرة، حتى في القرارات الدولية.

وسواء مرّ الاتفاق النووي بسلام، أو تأخر توقيعُه لسبب أو لآخر، ستظلّ هذه الحزمة من التحولات الماثلة تلقي بظلالها على دول المنطقة، وبالأخص على العراق الذي تعدّه طهران رأس الحربة في مشروعها الإمبراطوري، وقد عمدت علناً إلى اللعب معه على المكشوف. وجاء الهجوم الصاروخي على أربيل ليؤكد ما عناه رئيس فيلق القدس، إسماعيل قاآني، عندما قال: "إنّ فصلاً جديداً من المقاومة قد بدأ" وما أكده أيضاً القائد في الحرس الثوري، محمد طهراني، في "أنّنا نحذّر حكام الدول العربية من أنّنا سنستهدفهم بسهام الحرس الثوري غير المرئية، أي بصواريخ لا يمكن تعقبها". هنا تُمسك إيران بلحظتها التاريخية التي انتظرتها سنين طويلة، وعبرها ستفرض رؤيتها على المنطقة، وتكرّس وضعها قطباً إقليمياً فاعلاً ومتفاعلاً، وليس أمامنا، نحن العراقيين والعرب، سوى القبول بذلك إلى أن يقضي الله أمراً...

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"