إنّها الحرب .. الضعفاء يدفعون الثمن

08 مارس 2022

(يوسف عبدلكي)

+ الخط -

لكلّ حرب تعقيداتها، ولا تشذّ الحرب الروسية على أوكرانيا عن ذلك. وفي تحليل الحرب، تدخل عوامل كثيرة، ليس أساس قياسها، سؤال من الضحية ومن الجلاد؟ بل تقاس بالمصالح التي تجلبها هذه الحرب أو تضرّ بها. أوكرانيا ضحية الحرب العدوانية الروسية عليها، وهناك تعاطف وتضامن عالميان معها، لكنهما يبقيان محكومين بمصالح الأطراف المتعاطفة. لذلك، تؤكد التجربة الأوكرانية، من جديد، ما أكدته تجارب حروب أخرى، أن التعاطف وحده لا يردع المعتدي، خصوصا عندما يكون هذا قادراً على قهر ضحيته، سواء في حرب بين بلدين، أو في صراع داخلي. لذلك ما يردع المعتدي في هذه الحرب لن يقدّمه المتعاطفون من الدول الغربية لأوكرانيا. لذلك، يخوض الأوكرانيون معركتهم وحدهم، بدعم من الغرب غير ردعي، له حدود واضحة، عدم التورّط في هذه الحرب، لا جنود لحلف الناتو للمشاركة فيها، ولا حظر جوياً على الطيران الروسي فوق أوكرانيا على الروس، لأن إجراءً كهذا يعد إعلان حرب على روسيا من الدول التي تفرضه، ولا أحد في الغرب يريد ذلك. وبالتالي، نتيجة الحرب محسومة لصالح الروس، ولو طالت بعض الوقت. ولو صمد الأوكرانيون بعض الوقت صموداً أسطورياً وكبدوا الروس بعض الخسائر، فالمساعدات الغربية لأوكرانيا لا تغير في ميزان القوى، وتمنيّات الغرب أن يصمد الأوكرانيون في مواجهة الروس، ويحققوا النصر بإجبارهم على مغادرة البلد، مجرّد تمنيات سرعان ما ستذهب أدراج الريح، لأنّ نتائج الحرب لا تأتي من التمنيات، بل من ميزان القوى على الأرض، وهذا الميزان في هذه الحرب مختل مرتين. الأولى، ميزان القوى المباشر بين البلدين مختل بشدة لمصلحة روسيا، في النظر إلى القوة العسكرية الذاتية للبلدين. والثانية، مختل، لأنّ الروس لا يعدّون أنفسهم يحاربون أوكرانيا من أجل فرض شروطهم على أوكرانيا وحدها، بل يعتبرون أنفسهم يحاربون تمدّد "الناتو" الذي يهدّد أمنهم. وبالتالي، هذه الحرب من أجل وقف هذا التمدّد، وفرض التفاوض مع الدول الغربية وليس مع أوكرانيا وحدها التي شاء القدر التاريخي أن تكون في موقع هذا الاختبار. وذلك كلّه من أجل أن تأخذ الدول الغربية المخاوف الأمنية الروسية بالاعتبار، بعد الاحتقار الذي تعرّضت له خلال العقود الثلاثة المنصرمة، منذ تفكّك الاتحاد السوفييتي في 1991.

اعتبرت روسيا أنّ الثورات الملوّنة لشعوب الدول السوفييتية السابقة تشكّل تهديداً أمنياً للبلد، وليست مطلباً محقاً لهذه الشعوب في نيل حريتها

لم يعد زمن الاتحاد السوفييتي قائماً، والأفكار الشيوعية العابرة للقوميات، والتي ألهمت كثيرين وأوهمتهم وأغرتهم في صناعة عالم أفضل، ووجدت أنصاراً لها في كلّ بلد، لم تعد موجودة أيضاً. ولّى ذلك الزمن الذي صنع فيه الاتحاد السوفييتي أزمةً هدّدت حدود الولايات المتحدة في بطنها الرخو، قصدت أزمة الصواريخ في كوبا عام 1962، والتي فرضت على الولايات المتحدة أن تتعهد بعدم غزو كوبا، مقابل سحب الصواريخ السوفييتية. بعدها انهار المعسكر الاشتراكي وتفكّك الاتحاد السوفييتي، وبتفكّك حلفه العسكري، حلف وارسو، الذي أداره السوفييت ندّاً لحلف الناتو في زمن الحرب الباردة. سمح هذا الانهيار لدول اشتراكية سابقة بالالتحاق بالغرب، ليس بانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي فحسب، بل وبانضمامها إلى حلف الناتو أيضاً، بما فيها بولندا التي حمل التحالف العسكري الذي يديره الاتحاد السوفييتي سابقاً اسم عاصمتها. كذلك، حال ثلاث دول صغيرة كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق، لاتفيا وليتوانيا وإستونيا. بذلك تآكل المجال الحيوي الأمني الذي كان يغطي روسيا في زمن سابق، وبات حلف الناتو على حدود روسيا، واستمر الحلف بقضم المجال الأمني في محيطها، وهذا ما جعل روسيا ترى المخاطر الأمنية في كلّ شيء، فاعتبرت أنّ الثورات الملوّنة لشعوب الدول السوفييتية السابقة تشكل تهديداً أمنياً للبلد، وليست مطلباً محقاً لهذه الشعوب في نيل حريتها، والتخلص من الديكتاتوريات، كان جديدها التدخل الروسي العسكري في كازاخستان قبل أقل من ثلاثة أشهر، حين قالت روسيا إنّها لن تسمح بثورات ملوّنة في هذه البلدان.

البطء في العملية العسكرية قد يعود إلى رغبة الرئيس الروسي في إيجاد من يقدّم له المساعدة في النزول عن الشجرة العالية التي صعد عليها

لا يحرص النظام الروسي على حقوق الإنسان، ولا حتى شكلاً، ولا يهتم بصورته منتهكاً حقوق الإنسان في المناطق التي دخلها أو تدخل فيها، والنموذجان الفجّان في هذا الشأن، هما الشيشان وسورية، على فرق العلاقة من ناحية الروابط والموقع الجغرافي، إلا أنه لم يتورّع عن اعتماد سياسة الأرض المحروقة، وهدم المدن سواء في غروزني أو في حلب وحمص وغيرهما بالقذائف والصواريخ. لن يكون السلوك الروسي في أوكرانيا أفضل حالاً، مع أنه، حسب تقديرات غربية، لم يستخدم القدرات العسكرية التي كان من المتوقع أن يستخدمها في الأسبوع الأول، فقد توقّع هؤلاء عشرة أضعاف الدفعة الأولى التي أطلقها من الصواريخ. ويبدو أنّ البطء في العملية العسكرية لا يعود إلى أخطاء عسكرية وقعت فيها الحملة الروسية فقط، وإنّما قد يعود، أيضاً، إلى رغبة الرئيس الروسي، في إيجاد من يقدّم له المساعدة في النزول عن الشجرة العالية التي صعد عليها، ولم يعد قادراً على النزول وحده من دون حرب، ومن دون أن يقدّم أحد له سلم النزول، بعد الاحتقار والتجاهل الذي اعتمدته أميركا والدول الأوروبية في التعامل مع المخاطر الأمنية التي يراها، ولم ترغب في طمأنته، فمسألة انضمام أوكرانيا إلى "الناتو" لم تكن مطروحة، ولم يكن الحلف على وشك قبول عضويتها، وأصرّ الجميع على حقها في هذا الانضمام غير المطروح، متجاهلين الرد على مخاوفه. وحتى الآن، لا أحد يريد أن يقدم له سلم النزول.

في روسيا، سيدفع الضعفاء ثمن العقوبات التي تفرضها الدول الغربية على روسيا، ولن تتأثر الطغمة الحاكمة فيها

ليس هذا القول هنا من أجل تبرير الحرب الروسية على أوكرانيا، إنما من أجل فهمها، فهي حربٌ روسية عدوانية وظالمة، وأوكرانيا ضحيةٌ لهذا العدوان، وسيدفع ثمن الحرب المواطنون الضعفاء في كلا البلدين، في أوكرانيا سيكونون الضحايا المباشرين للعمليات الحربية التي ينتج عنها آلاف القتلى والجرحى، وتشريد الملايين. وفي روسيا، سيدفع الضعفاء ثمن العقوبات التي تفرضها الدول الغربية على روسيا، ولن تتأثر الطغمة الحاكمة فيها، وقد تم اختبار هذه العقوبات في كلّ من العراق وسورية، وشهدنا كيف دفع الفقراء في البلدين ثمن سياسة العقوبات وما زالوا يدفعون. وطالما لم يجد بوتين من يقدّم له سلم النزول، سيزيد الضغط على الغرب بمزيد من التصعيد في أوكرانيا، والتصعيد يتاجر في آلام البشر، فالتصعيد قد يؤدّي إلى لجوء أكثر من سبعة ملايين أوكراني إلى أوروبا حسب التوقعات، وهو رقم مرعب لأوروبا، يشيع حالة غير مسبوقة. سيتراخى الترحيب الذي يجده الأوكرانيون في الغرب اليوم بسبب التعاطف الكبير معهم، ويتحول إلى تذمر مع الوقت. والكلام عن اللاجئين الشقر أصحاب العيون الزرقاء سيتراجع لادعاءات تحميلهم مسؤولية القادم. فعلى مدى ثمانية أيام من عمر الحرب، فرّ مليون ومائتا ألف مواطن خارج أوكرانيا، ولنا أن نتخيّل الأعداد بعد شهرين، إذا ما استمرّت الحرب وتصاعد الدمار، واستمر تدفق اللاجئين. إنّه سيناريو رعب لأوروبا. أتمنّى ألّا يحصل، وأن تتوقف الحرب، لأنّ البشر الضعفاء هم من يدفعون ثمن هذه الحرب العدوانية، ولأنّي أعرف أنّ الاقتلاع من أكثر التجارب الإنسانية قسوة. لكنّ تمنياتي وتمنيات مليارات البشر، للأسف، لا توقف قذيفة يطلقها مدفع روسي على مدينة أوكرانية.

D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.