إنها فلسطين .. إنها استعلاء الإرادة
ثلاثة مشاهد في الأيام الأخيرة تختزل معاناة الأسرى الفلسطينيين، تُوَصِّفُ عزائمهم الفولاذية، وتصوغ إرادة التحرير فلسطينياً. ليس سجن جلبوع بأسراه الستة الذين انطلقوا إلى فضاء الحرية، قبل أن يعيد الاحتلال اعتقال أربعة منهم، أصل الحكاية ومبتدأها، ولا حتى هو خبرها ومجرّد فصل فيها، فحسب، بل هو تلخيصٌ وتكثيفٌ لحتمية التحرير الفلسطيني والانعتاق من ربقة الاحتلال الصهيوني. شعب كهذا، تأبى عزيمته أن تخور، ويأبى أن يرفع راية الاستسلام، ويأبى أن ينال منه اليأس، لهو أهل للحرية، وهو قادرٌ على بعث فجره من جديد، ولو عبر نفق في الضفة الغربية أو قطاع غزة. تأبى فلسطين إلا أن تتنفس عزةً وحريةً وكرامة، واستثناء الظلم فيها لا يكون أصلاً أبداً. أيضاً، لا يمثل المتواطئون مع الاحتلال بين أبناء شعبها، أو اليائسون المثَبِّطونَ، إلا استثناءً سيزول يوماً.
المشهد الأول، كان في تسطير الأسرى الستة، محمود العارضة، زكريا الزبيدي، محمد العارضة، يعقوب قادري، أيهم كممجي، ومناضل نفيعات، ملحمةً جديدةً من ملامح الكفاح الفلسطيني، بهروبهم من سجن جلبوع ذي الإجراءات الأمنية المشدّدة. النفق الذي حفره بعضهم على مدى أشهر بأدوات بدائية كان تعبيراً صادقاً عن الإرادة الحرة العنيدة لدى أكثر من 4650 أسيراً فلسطينياً في سجون الاحتلال. وحتى عندما أعاد الاحتلال اعتقال الأربعة الأوائل منهم، فإن ثقتهم بالحرية لم تَهِنْ ولم تخر، بل، وكما نقل عن بعضهم، فإنهم الآن أكثر يقيناً بها.
النفق الذي حفره الأسرى الستة على مدى أشهر بأدوات بدائية كان تعبيراً صادقاً عن الإرادة الحرة العنيدة لدى أكثر من 4650 أسيراً فلسطينياً في سجون الاحتلال
هم يعلمون أن وراءهم شعباً، في كل أماكن وجوده، في الداخل الفلسطيني عام 1948، في الضفة الغربية، في قطاع غزة، وفي ساحات اللجوء والشتات العالمي، لن تخذلهم ولن تذرهم وحيدين. جاءهم الجواب من المقاومة في غزة، فلتحكُم عليكم محاكم الأبارتهايد الإسرائيلي كيف تشاء، ولتضف إلى مؤبداتكم أخرى، إلا أن موعدكم سيكون الحرية رغماً عن الاحتلال، حيث ستكونون على رأس أي صفقة تبادل. ومع أن العدو الصهيوني حاول أن يستفزّ شقاقاً ونزاعاً طائفياً بين أبناء الشعب الواحد، إلا أن لا الأسرى المعاد اعتقالهم، ولا الشعب الفلسطيني بلعوا الطعم. فلسطين كلها، بجميع مكوّناتها، وطوائفها، وفصائلها، وقواها، شعب واحد يقف وراء أسراه. أما من اختار من بينهم التواطؤ مع العدو أو العمالة له، فهم ليسوا من هذا الشعب في شيء، وهم لا ينتمون لطائفةٍ أو فئةٍ معينة فيه.
المشهد الثاني، تمثل في تجدّد حملة المطالبة بإطلاق الأسيرة إسراء جعابيص ابنة الستة والثلاثين عاماً من جبل المكبر في القدس المحتلة. تُحدث صور هذه الفتاة كمداً في القلب كلما أراها، وتثير أحزاناً وأوجاعاً، وقد أتت الحروق على 60% من جسدها ووجهها. أنفها وأصابع يديها التي ذابت، معاناة فراق ابنها الوحيد، آلام الحروق وحرمانها في زنازين العدو من الأدوية والعلاج، قضاؤها ست سنوات في السجن من مجمل محكوميتها البالغة 11 عاماً. لا تحتاج أن تكون فلسطينياً كي تتعاطف مع إسراء. كل ما يلزم هو أن تكون إنساناً، أو فيك ذرّة من إنسانية. لكننا نعلم أن الكيان الصهيوني لا يملك شيئاً من الإنسانية، وجنوده ورجال أمنه مجرّد وحوش آدمية، بل أقسى وأكثر لؤما. عندما احترقت المركبة التي كانت تقودها إسراء، جرّاء تماسّ كهربائي، في أكتوبر / تشرين الأول 2015، بالقرب من حاجز عسكري شرقيَّ القدس المحتلة، تركها الجنود الإسرائيليون في داخلها تحترق، ولم يحاولوا إطفاء المركبة، ولا تقديم يد عون لها. ثمَّ اتهموها بأنها كانت تنوي تنفيذ عملية عسكرية ضدهم بسبب أسطوانة الغاز التي كانت في صندوق السيارة.
من كان يظن أن الأبارتهايد الصهيوني يحترم قوانين، ويعترف بمواثيق دولية، أو أنه ديمقراطي، عليه أن يعد حساباته
من كان يظن أن الأبارتهايد الصهيوني يحترم قوانين، ويعترف بمواثيق دولية، أو أنه ديمقراطي، فليعد حساباته في ضوء قصة إسراء. ومن كان يزعم إنه يمكن التعويل على اتفاقات "سلام"، أو صفقات سياسية، من موقع ضعف، مع عدو مجرم لا يرى في الفلسطيني إنساناً تستحقّ حياته وسلامته الاحترام، فليجرؤ على تحديث إسراء بذلك. ومن كان يهرطق بين الفلسطينيين بأن "التنسيق الأمني" مع الكيان الصهيوني مصلحة فلسطينية، ينبغي أن تكون قضية إسراء لعنة تطارده في المحيا والممات. قد تكون إسراء جعابيص حالةً مغرقةً في الكآبة والحزن والأسى، ولكنها أيضاً شعاعُ أملٍ أن الفلسطيني الحر مهما توجع وعانى تبقى روحه ترنو نحو الغد القادم المشرق.
المشهد الثالث، جسّدته تلك القبلة الحزينة التي طبعها الأسير حجازي القواسمي على رأس ابنه أحمد، ابن الأحد عشر ربيعاً، الذي يتعالج من السرطان، بعد أن اقتحمت قواتٌ إسرائيلية منزله في الخليل لاعتقاله يوم الثلاثاء الماضي. لم يشفع لحجازي مرض ابنه، وتلقيه جلسات علاج كيميائي منذ شهر فبراير/ شباط الماضي، بعد عملية استئصال لورم خبيث خضع لها في تركيا. مشهد يُقَطِّعُ حَشاشَةَ القلب وحجازي يقبل رأس ابنه أحمد، في حين يحمل طفلاً آخر بذراعه، وتقف طفلة ثالثة تتابع تلك الدراما المأساوية. قال أحمد إن أباه قال له وهو يقبله: "ما تقلق، راح أرجع، ما راح أطول، شد حيلك في الكيماوي". أما زوجة حجازي، فقالت إن اعتقاله ليس لذنبٍ اقترفه، وإنما لأنه رفض العمالة لصالح الاحتلال ضد أبناء شعبه، فكان أن عاقبه، أولاً، بمنعه من السفر مع ابنه من أجل العلاج، ثمّ باعتقاله الآن. وعندما سئل أحمد، الذي اُضْطُرَ أهله أن يؤجلوا جلسة العلاج الكيميائي يوماً بسبب اعتقال والده، عن شعوره، قال إنه شعورٌ بالقهر ومؤلمٌ جداً، ولكنه أيضاً، عبّر ببراءته عن عزيمة شعبٍ تأبى الانكسار والخنوع والخضوع: "إن شاء الله يا با (يا أبي) ترجع بالسلامة".
حتى تبزغ شمس الحرية من جديد، سيبقى الشعب الفلسطيني عاشقاً لها، يطلبها حثيثاً، مسطّراً الملاحم في سيرورتها
كالعادة، سيطلع علينا بعض المتحذلقين ليقولوا إن جرائم الاحتلال الصهيوني نعيم أمام فظائع جرائم بعض الأنظمة العربية. وإن زنازين إسرائيل جنَّة مقارنة بجهنم زنازين بعض العرب... يا هؤلاء، البؤس واحد، والجريمة واحدة، والمجرم واحد، والضحية واحدة. لا فرق بين ألم وألم، حتى لو اختلفت الدرجة، ولا فرق بين دم ودم إلا في حشايا تحيّزات مخبولين. وكل من يسعى في التفريق بين آلامنا ومصابنا وأحزاننا وتطلعاتنا هو مُنْتِنٌ خبيث، مهما ادّعى وصلاً بجرح من جراحات أمتنا. أما التائهون، الباحثون عن "سلام" مع عدو فتك، ويفتك بشعبهم وأمتهم، فهم في الغِيِّ سادرون، وكثير منهم من الخيانة والعمالة ثملون.
وحتى تبزغ شمس الحرية من جديد، سيبقى الشعب الفلسطيني عاشقاً لها، يطلبها حثيثاً، مسطّراً الملاحم في سيرورتها. إنه شعب لم يكسر إرادته تداعي الأعداء عليه، وهم على وأد قدر التحرير والحرية والفجر الباسم القادم لعاجزون. وإنه شعبٌ ما فَتَّ في عضده تواطؤ المتواطئين، ولا تخاذل المتخاذلين. من ظهور رجالنا وأرحام نسائنا، من فوق الأرض، من باطنها، من سمائها، من بحرها، يطلع الفلسطينيون الأحرار، وسيبقون يطلعون، حتى كسر آخر قيد، وكنس الاحتلال البغيض المجرم، وتطهير الأرض من رجس العملاء الخائنين.