إلى غموض أكثر في تونس
بعد مرور ستة أسابيع على إعلان الرئيس التونسي قيس سعيّد، يوم 25 يوليو/ تموز، حالة الاستثناء وتجميد البرلمان ورفع الحصانة عن كل أعضائه، وتجميع كل السلطات بين يدي الرئيس، لا أحد يعلم إلى أين تسير تونس، وما هو الاتجاه الذي يدفع إليه سعيّد وماذا في رأسه. وفي كنف الغموض الذي يلف الحياة السياسية، تتساءل شرائح من التونسيين: أين تسير البلاد، وهل أصبح سيرها على غير هدى؟
لقد تجاوزت اللحظة السياسية الراهنة في تونس ذلك الجدل السياسي والقانوني بشأن شرعية ما أقدم عليه سعيّد، والذي أصبح بموجبه الأخير المحور الوحيد للحياة العامة في البلاد التي يسيّر فيها الشأن العام منذ أكثر من شهر بموجب إجراءات استثنائية. وقد جاء إعلان رئاسة الجمهورية، يوم 23 أغسطس/ آب، تمديد هذه الإجراءات إلى جل غير مسمّى، ليعزّز الشكوك بشأن الوجود الفعلي لخريطة طريق يستند اليها خلال الأسابيع المقبلة، والتي يصر سعيّد على أنها منبثقة عن الشعب، وهو شعار جميل، ولكنه يظل هلاميا وغارقا في الشعبوية. إذ تتواتر التساؤلات بشأن ما سيؤول إليه الوضع في تونس أمام انعدام الوضوح وغياب الرؤية واستمرار الرئيس في إطلاق بيانات صوتية، معلنةً الحرب على الفساد والفاسدين، مع استحالة العودة إلى الوراء. وفي المقابل، تتسارع الأحداث، ويزداد الوضع الاقتصادي اختناقا مع تداعيات حادّة لأزمة صحية لم يسبق أن شهدتها البلاد. وهنالك إجماع اليوم في المشهد العام على أن إصرار سعيّد على المضي في سياسة التعتيم باتجاه النأي عن الكشف عن توجهاته وبرامجه، يمكن أن ينتهي إلى عكس ما يسعى إليه من إقناع السواد الأعظم من التونسيين الذين قد ينقلب مزاجهم من مبتهجٍ لطيٍّ صفحة ما قبل 25 يوليو/ تموز إلى متبرم ورافض لما آلت إليه المرحلة في ظل تفاقم ما يجري من إيقافات واعتقالات وقرارات فرض الإقامة الجبرية والمنع من السفر من دون أحكام أو إجراءات يتخذها القضاء، إذ يُخشى، كما نبهت إلى ذلك منظمات المجتمع المدني وشخصيات وطنية وجهات أجنبية، من أن تصبح تونس سجنا مفتوحا ليصبح كل التونسيين في وضع الاتهام والمنع من مغادرة وطنهم، قبل أن يقدّموا دليل براءتهم.
يصرّ الرئيس على السير وحيداً لتشكيل مستقبل شعب بأسره
السؤال الأبرز الذي يلهج به التونسيون اليوم: لماذا هذا التأجيل المتواتر من سعيّد لتعيين رئيس حكومة أو وزير أول، وتشكيل حكومة تباشر إدارة الشأن العام وتفتح ركود الملفات الاقتصادية والاجتماعية؟ كانت التوقعات الأولية أنه يريد إصدار أمر رئاسي ينظم السلطات العمومية مؤقتا، ويعين بمقتضاه شخصية وطنية تكلف بتسيير الحكومة. وكان سعيّد قد أعلن عند إعفائه رئيس الحكومة هشام المشيشي، أنه "سيدعو شخصا آخر ليتولاها مدة التدابير الاستثنائية"، وهو ما لم يتم!
ويرى متابعون للشأن العام ومحللون أن السبب الرئيسي لعدم تعيين رئيس حكومة رغبة شخصية يضمرها الرئيس، ليخلو مسرح السلطة التنفيذية له فقط لا غير، فقيس سعيّد حريص كل الحرص على أن يظهر في المشهد السياسي العام متحكّما وحيدا في كامل أجهزة الدولة، ماسكا كل خيوط اللعبة وأوراقها. ويبدو سعيّد، من خلال استقبالاته وزياراته، مركّزا على هدف واحد، محاربة الفساد. وها هو يكشف عبر هذه التحركات والزيارات صورا لهذا الفساد، تنقلها مباشرة شاشات التلفزات إلى التونسيين، في محاولة لإقناع الجميع بأن ما نكل بحياتهم ورذل وجودهم هي مؤسسات دولة فاسدة ومسؤولون فاسدون ولوبيات سرقت أموال الشعب، واحتكرت المزايدات في قوته وشربه. ومن مفارقات عجيبة في حرب سعيّد على الفساد والفاسدين المداهمة الغريبة للهيئة المعنية بمكافحة الفساد، وهي هيئة وطنية من هيئات الدولة، مؤتمنة على ملفات دقيقة ومعطيات شخصية لأكثر من مائتي ألف تونسي، ووضع رئيسها السابق العميد شوقي الطبيب رهن الإقامة الجبرية، وذلك من دون تفسير أو مبرر قانوني أو إجراء قضائي. وزاد الطين بلة تسليم مواطن جزائري لاجئ في تونس، هو سليمان بوحفص، ومسجل في سجلت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، في ما يشي بأنها صفقةٌ لا تليق بتونس الموقعة في 1951 على اتفاقية الأمم المتحدة وبروتوكول 1967 الخاصين بوضع اللاجئين يلزمانها باحترام تعهداتها الدولية، وخصوصا الالتزام بعدم إعادة اللاجئين أو طالبي اللجوء إلى مناطق يمكن أن تتعرّض فيها حياتهم أو حرّيتهم للتهديد، بسبب العرق أو الدين أو الجنسية أو الانتماء لفئة اجتماعية أو الآراء السياسية، كما تنص على ذلك المادة 33 من الاتفاقية.
تجاوزت اللحظة السياسية الراهنة في تونس الجدل السياسي والقانوني بشأن شرعية ما أقدم عليه سعيّد
رفض الرئيس قيس سعيّد توضيح معالم برنامجه ومرتكزات خريطة الطريق التي ستعبر تونس من خلالها إلى عتبات الجمهورية الثالثة يزيد، من يوم إلى آخر، المشهد غموضا وضبابية. ولا يستبعد أن يتوقف الزمن السياسي في تونس أمام غموض هذا المشهد، وإصرار الرئيس على السير وحيدا لتشكيل مستقبل شعب بأسره، في غياب التواصل بينه وبين الأطراف السياسية ومنظمات المجتمع المدني وكبرى المنظمات الوطنية، وأولها الاتحاد العام التونسي للشغل الذي بادر بالدعوة إلى حوار وطني عرضه على سعيّد الذي أبدى موافقته ثم عاد عنها. ويبدو واضحا أن سعيد قد أكد قطيعته مع الداخل السياسي والمجتمعي. وهو يسعى، في المقابل، إلى إقناع أطراف خارجية عديدة بشرعية ما أقدم عليه وصحة توجهاته ورؤيته لمستقبل تونس، فهل يلتفت سعيّد إلى الداخل، وينكبّ على هموم مواطنيه الملحّة، ويفصح عما يدور في خلده لتتضح معالم الطريق الذي يبتغي السير فيه، أم يظلّ السؤال قائما: إلى أين تسير تونس؟