إلغاء عيد الجمهورية في العراق
يورد علي عبد الأمير علّاوي في الببلوغرافيا التي كتبها عن الملك فيصل الأول (ملك العراق)، حادثةً عن تماسّ حصل بين جيش الأمير فيصل (في وقتها) والفرقة العثمانية التي كان يقودها مصطفى كمال باشا (أتاتورك لاحقاً)، في شمالي سورية عام 1918، وأنّ أتاتورك كان على وشك أن يقع أسيراً في أيدي قوات فيصل، لولا أنّه استطاع الانسحاب شمالاً، ثمّ ليكون لاحقاً ما صار عليه من شهرة ومجد.
يلتقي الرجلان في مسألة، ربما كانا يدركان أنّهما مُشتركان فيها أو لا؛ هي ضرورة انفصال أرض العرب عن أرض الترك، وكان مشروعاهما، لاحقاً، يتوازيان، ويذهبان في هذا التصوّر القومي إلى منتهاه. تذكّرتُ الرجلَين وأنا أتابع صدى إقرار مشروع قانون الأعياد والمناسبات في العراق، الذي أدخل للمرّة الأولى في تاريخ العراق عيد الغدير الإشكالي، مناسبة وطنيةً، وألغى، في جانب آخر، يوم 14 من تموز عيداً وطنياً. وهو اليوم الذي جرى فيه إسقاط النظام الملكي في العراق في 1958، وإعلان ولادة الجمهورية. وإذ ذهبت كثيرٌ من التداعيات والأصداء للتعليق على عيد الغدير، فإنّ تعليقات أخرى احتجت على إلغاء عيد الجمهورية العراقية، وكان هناك فريقٌ ثالث، أتضامن معه، قد تعجّب من عدم إقرار عيد وطني للعراق.
كتب الأستاذ العراقي في جامعة أريزونا الأميركية، سليم سوزة، متهكّماً بصفحته في "فيسبوك": "أصبح العراق رسمياً ثالث دولة في العالم، من بين 195 دولة على كوكب الأرض، ليس فيه (يوم وطني) يتعلّق باستقلال الدولة أو بتأسيسها. المملكة البريطانية المتّحدة ودولة الدنمارك، والآن العراق، هي الدول الثلاث فقط، من بين كلّ دول العالم ليس فيها يوم وطني". على الرغم من الفهم العام للأسباب التي دعت إلى إقرار عيد الغدير، وأنّه مُجرّد مزايدات سياسية (شيعية) ما بين التيّار الصدري والإطار التنسيقي الشيعي الحاكم، فإنّه ليس من المفهوم لماذا أُلغِيَ عيد تأسيس الجمهورية، أو لماذا لم يتم إقرار يوم وطني للعراق.
ولو "ثنيت لي الوسادة" كما يقال في التعبير التراثي، فإنّني بالمطلق سأدعو إلى اعتماد يوم تأسيس المملكة العراقية في 23 أغسطس/ آب 1921، أو تاريخ دخول العراق في عصبة الأمم في 3 أكتوبر/ تشرين الأول 1932، يوماً وطنياً للعراق، فالعراق ما قبل هذه الحقبة لم يكن العراق الذي نعرفه اليوم، وإنّما مُجرّد ولايات تابعة للدولة العثمانية، وعلى الرغم من كلّ انتقادات المناصرين للجمهورية، فإنّ العراق الحديث هو براءة اختراع للملك فيصل الأول، وطاقمه من العراقيين ذوي الانتماء العروبي، بنسخته المُعتدِلة، ما قبل الناصرية والبعثية، والانتماء الوطني الأصيل.
وبالعودة إلى بداية هذا المقال؛ فإنّه كما كان مصطفى كمال باشا أبا الأتراك المعاصرين (أتاتورك)، وجاء ذلك ضمن ظروف مُعقّدة واستثنائية، فإنّ فيصل الأول هو أبو العراق. ومن المعيب تجاهل تراثه وشخصيته الرمزية من كيان الدولة العراقية الحديثة، بغضّ النظر عن موقفنا من النظام الملكي وأخطائه ومشاكله.
لقد تشكّلت طبقة الضبّاط الانقلابيين في حاضنة النظام الملكي، الذي أسسه فيصل الأول، وما كان لهؤلاء الانقلابيين أن يكونوا ما كانوا عليه لولا هذا النظام، ولبقوا أقرب إلى جذورهم الاجتماعية الفلّاحية، ولعملوا في وظائف آبائهم وأجداده.
وهنا نرجع مرّة أخرى إلى أتاتورك، ولكن، من زاوية أخرى، فأقول: إن أتاتورك يتحمّل، من دون أن يقصد ذلك، جناية ما حصل في العراق ومصر وبلدان أخرى في العالم العربي، فالمسار الذي اختطّه، منذ بداياته الهامشية حتّى تحوّله رمزاً وطنياً تركياً مُشّعاً، أثّر في شخصية الضبّاط في العالم العربي، وتخيّلوا أنفسهم أنّهم يستطيعون السير في المسار ذاته. وهذا موضوع طويل يمكن الحديث عنه في مناسبة أخرى بتفصيل أكثر.
لقد كوّن فيصل بن الحسين شخصيته وسمعته مقاتلاً وقائداً لجيش الشمال في الثورة العربية الكبرى، وكان الطاقم السياسي الأول الذي رافقته إلى الديار العراقية من الضبّاط؛ نحو جعفر العسكري ونوري السعيد ومولود مخلص، وآخرين. ولكنّهم تحوّلوا جميعاً إلى العمل السياسي، وتركوا عمل العسكر. وأثبتوا كفاءة في الميدانَين (كما مصطفى كمال أتاتورك). ولكنّ المعادلة التي حكمت هذا المسار تبقى معادلة خاصّة لا يمكن أن نتوقّع أن تتكرّر دائماً.
لست متأسّفاً على حذف عيد الجمهورية، رغم أنّي لا أعرف الأسباب، وأتمنّى إقرار يوم وطني مرتبط بتولّي فيصل الأول عرش العراق، أو دخول العراق عصبة الأمم في 1932، ليكون ثاني دولة عربية، بعد الكويت، تحصل على هذا الامتياز.