إشارات أربع لمستقبل السؤال القديم

06 يونيو 2022

(رولاند كرونشنابل)

+ الخط -

مرتدياً قميصاً أحمر، أذَّن أبي في أذُني وليدا. كان يساريا قارئا مكسيم غوركي ولينينَ وتروتسكي، حين بدأ التدين يلامس انفعالاتِه "الروحية"، ثم لاحقا علائقَه الاجتماعية والسياسية.. هي إشارة لتحولات جيلٍ مِن الراديكالية الشيوعية إلى التشدّد الإسلامسياسي. تغيّر المضمونُ، وبقيت الثورةُ أو الرفض عنصرا جامعا.
بعد سنوات، لم يتردّد أبي، حين كان أربعينيا، في القول إن لحيتَه لن يقتربَ منها الموسُ. ترك الرجلُ شعرَ ذقنه الآخذَ شيباً بِلا مساس بعد اعتيادِ حلقِه أعواماً صباحَ كلِّ يوم استجابةً لكونه عسكرياً ملزماً بحلقِ لحيته، ولحماية نفسِه من عيون السلطة أنْ تراه إسلاميا ثمانينياتِ القرن الماضي.
إلى ما قبل نهايات سبعينيات القرن الماضي، لم ينتصرْ بعدُ آية الله الخميني في إيران، ولم يحجّ "المجاهدون" إلى أفغانستان لمقاومة الغزو السوفييتي، ولم يغتل الإسلاميون أنور السادات في مصر، ولم ينتفض "الإخوان المسلمين" في حماة السورية، ولم يقتحم جهيمان الحرم المكّي مدعيا المهدوية، ولم يُعدم بعدُ باقر الصدر في العراق، ولم يتأسّس حزب الله في لبنان.. الثنائيات الجديدةُ الحادّة وشديدة العنف ما ظهرتْ بعدُ صراحةً.
تلك ليست تحوّلاتِ شخصٍ واحد، بل تعبيرٌ عن وضع وسياق سائدين في تلك البقاع من الأرض. قد تختلف عن نظيراتِها في الغرب بحكم الهوة الثقافية والسياسية والاقتصادية.. بين العوالم. لكن الهزّة في كل مكان واحدةٌ مهما تغيرت مضامينها. انهيارُ جدارِ برلين وهزيمةُ السوفييت في أفغانستان وما تلاهما أحداثٌ أثّرت في حسم على أنماط عدة من التفكير. ولذلك تداعياتٌ ونتائجُ وآثار شغلت حيّزا زمنيا غير صغير.

مع ترامب انكشفتْ موجةُ انقسامٍ شديدة داخلَ الولايات المتحدة وبلدان أخرى. ليس انقساما في التوجهات السياسية ما كان فحسب، بل التفكيرُ المجتمعي والأخلاقي

وهناك تحول آخر، الآن. باتت العنصريةُ صفةً لاأخلاقيةً صريحة، وظهرت اتجاهاتٌ جديدة مِن مناهضة العنصرية غربيا لا تشبه حتى ما حلم به مارتن لوثر كينغ. لقد وصل إلى البيت الأبيض رئيسٌ من أصول أفريقية، وخلَفه آخرُ ينتمي إلى شريحة التمييزين، العنصري والطبقي. استمرّتْ سلوكيات رجال الشرطة ضد أصحاب البشرة السوداء في الولايات المتحدة، ومقابلها ظهرتْ حركةُ "حياة السود مهمة". هي اهتزازاتٌ ليست على شكل انتفاضات تقليدية، بل صراعٌ ينتمي إلى سؤال أخلاقي.
حياة السود مهمة هي إحدى علاماتٍ أربعٍ على تحول راهن واسع النطاق. دلائلُ أو إشاراتٌ يصعُب إغفالها لأخذ صورةٍ ما، ولو مشوّشة، عن المستقبل، فهي وقبْلَها صعودُ دونالد ترامب ثم هزيمتُه انتخابيا، ومعركةُ الإغلاق وما تلاها من تمرّدٍ عليه في زمن كورونا، وغزو بوتين أوكرانيا وما قابَلَه من حراكٍ لحلف شمال الأطلسي (الناتو) على حدود أوروبا الشرقية والشمالية.. هزاتُ الزمنِ الراهن وعلاماتٌ على مستقبله.
عمقُ الأحداث الأربعة ليس في أنها عابرةٌ جغرافياً فحسب، بل في استمرار تأثيرِها أيضا، فحين نتحدّثُ عن حياة السود مهمة، نواجه أسئلةً تمُس حتى الثوابتَ في العالم الغربي. مثلا، كان صعبا في بريطانيا تخيّلُ شكٍ في أخلاقية وجود تمثال تشرشل، لكن مع الحركة الجديدة كاد التمثالُ يُسقط مثل تماثيلَ أخرى تؤشّر إلى العنصرية، ولولا رمزيةُ الرجل ضد مغامرة هتلر لأزيح.
هي أيضا تعبيرٌ عن صراع مع الترامبية. الأخيرة على مستوى ثقافي واجتماعي فضلا عن السياسي والاقتصادي أوجدتْ وضعا قلَّ مثيلُه على مدى العقود الأخيرة. حتى حروبُ الرئيس بوش الابن مع صعود المحافظين الجدد، لم تقتحمْ بنيةَ التفكير وأنماطه، بل مسّتْ توازناتٍ دولية. مع ترامب انكشفتْ موجةُ انقسامٍ شديدة داخلَ الولايات المتحدة وبلدان أخرى. ليس انقساما في التوجهات السياسية ما كان فحسب، بل التفكيرُ المجتمعي والأخلاقي، في العلاقات بين الأفراد والجماعات البشرية، ظهرتْ فيه انقساماتٌ لم تكن معلنة. تجاوز تأثيرُها حتى قضايا مثل عداءِ السامية والإسلاموفوبيا.

سعت الأنظمة، الغربية فضلا عن غير الديمقراطية، إلى وضع قيود أحيانا على بعض أنماط الحريات

الترامبية ليست وليدةَ الرئيسِ الخامس والأربعين فقط، هي جزءٌ من سلسلة أحداثٍ عالميةٍ متسلسلة مثلتْ نوعا من استعادة صخب الأنا على حساب الآخر، آخرُها كان استفتاء خروجِ بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. لكن الرجل كشف بعزم ذلك النمط من الشعبوية والاعتداد الأناني. وليس دقيقا القولُ إن أهمّ عوامل تلك الموجة موضوع المهاجرين، فإيطاليا التي شهدت صعودَ مظهرٍ من الشعبوية شمالَها وجنوبَها، كانت قضيةُ الهجرة حاسمة فيها، لكن في بلدان كالبرازيل لعبتْ عوامل أخرى أدوارا ذات دلالة. كانت الموجةُ متعدّدةَ العوامل، ربما يمثل الاقتصاد والمخاوف المحافظة من قضايا الزمن الحديث كزواج المثليين والإجهاض، من عواملها الداخلية. وهذا كان واضحا في بولندا مثلا، وهو كذلك إلى جانب الهجرة في هنغاريا.
لم تقدّم المجر نفسَها بقوة في مجال المواقف المحافظة في السياسات الداخلية فحسب، بل في الأزمة الأوكرانية. اختلف موقفُ بودابست عن المعلن في جلّ عواصمِ الاتحاد الأوروبي بشأن رفض المشاركة في العقوبات على قطاع الطاقة الروسي ومرور شحنات الأسلحة إلى أوكرانيا. وبعيداً عن المعلن، تظهر شكوكٌ بشأن ما خفي من مواقف. الأوروبيون عكسَ البريطانيين والأميركيين، رغم تشدّدهم في فرض العقوبات ومساعدةِ أوكرانيا، لا يريدون ذهاب الوضع بعيدا في استعداء موسكو. الرئيس الفرنسي، مثلا، مستمرّ في التواصل مع نظيره الروسي، وطالب أخيرا بألا يتحوّل الوضعُ إلى عملية إذلال لروسيا. هذا جزء من ذاكرة الحرب العالمية الأولى وإذلالِ ألمانيا وما نجم عن ذلك من تداعيات، فمركزية قضية غزوِ بوتين أوكرانيا في التحوّلات العالمية تكمن في معطيين متضادّين. من جهةٍ، يبرزُ الخلافُ الغربي القائم على استحقاق الجغرافيا والاقتصاد. ومن جهة أخرى، تظهر نقاطُ الالتقاء بين جانبي المحيط الأطلسي. الالتقاء هو محاولة للحفاظ على التكتلات الغربية اقتصاديا. فرض العقوبات، في هذا الصدد، أخرج الغرب من سياق التمسّك بحرية رأس المال ضمن القوانين المعروفة سلفا، إلى السيطرة على جزء من ذلك المال، وهو الجزء المرتبط بروسيا أو بالكرملين.
حرية رأس المال في الليبرالية الاقتصادية أَسستْ على مدى زمني طويل حريةً فردية اجتماعيا وسياسيا. بالطبع، سعت الأنظمة، الغربية فضلا عن غير الديمقراطية، إلى وضع قيود أحيانا على بعض أنماط الحريات، مثل تعاطي المخدّرات.. لكن تلك المساعي، مهما كانت محدودة، احتاجت إلى مسار بيروقراطي برلماني وقضائي وثقافي طويل حتى تفرض. فجأة اختفى هذا المسار، حين ضربت العالم الجائحة.

جدل قديم متجدّد يدور حول ثنائيةِ الوصاية والحرية، وعند أيّ حدود يفترض أنْ تقف كل منهما

فُرضت قيودٌ عديدةٌ على الناس لمواجهة كوفيد، وأصبحوا محجورين حجْرا غير مسبوق. في أكثر من بلد غربي، وجب على الأفراد إظهارُ سببٍ وجيه للسير في الشوارع على مدى أشهر. ثم جاء اللقاح جوازَ مرور إلى الأماكن المغلقة في أكثر من بلد، وتكليلا لتقويضِ الحريات. وإذا كان الحجرُ مفسَّرا على أساس ما قاله فولتير "حريتك تقف أينما تبدأ حرية الآخرين"، فإن الأمرَ مختلف مع اللقاحات. هي لا تمنع انتقال العدوى، بل تؤثرُ في حماية الملَقَح نفسِه من تداعيات وخيمة.
الخوف من التداعيات هو، بصيغة أو بأخرى، ينتمي إلى جدل قديم متجدّد يدور حول ثنائيةِ الوصاية والحرية، وعند أيّ حدود يفترض أنْ تقف كل منهما. لذا جازَ القولُ إن قيودَ كورونا وفرضَ اللقاح مع منْعِ ترامب من استخدام صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي وتجميدِ أموال رجال الأعمال ذوي الصلة بالكرملين.. وحقِّ إقامة نُصب لرموز أمم لديهم جانب مظلم من العنصرية وحقِ تهديمها.. هي قضايا أساسية تعود إلى سؤالٍ كان دائما لب المسار الفلسفي؛ سؤالِ الحرية.
وإلى جانب ما يحدث من اصطفافاتٍ حادّة وثنائيات دولية جديدة وعودة إلى الاستقطاب والتنافس الاقتصادي بين بكين وواشنطن، هذه المرّة يعود سؤال الحرية واضعا علامات استفهام في الطريق إلى مستقبل المنظومةِ السياسية والثقافية والاقتصادية نفسِها التي بُنيت على الدفاع عن حرية الفرد. المقبلُ من الجدل ربما سيخلق مفكريه وفلاسفته ومدارسه.. وربما سيكون لعصر الاتصالات مزيدٌ من المشاركة الجماعية البديلةِ عن النخب للمساهمة في صناعة الجدل، كما حصل مع الترامبية والبوتينية والعنصرية، فضلا عن الفيروس ولقاحه وحدود الحرية في التعاطي معهما.
تقييم المسار واختلافُه عما اعتاده العالم، رهنُ طبيعةِ التغيير وما إذا كان مثلَ تغيير قميص أحمرَ بلحيةٍ لا يقترب منها الموس أو انتقالاً يمسّ جذرَ سؤال الحرية ومدياتها، أخلاقيا وسياسيا واجتماعيا وفلسفيا..

عمار السواد
عمار السواد
عمار السواد
إعلامي وكاتب عراقي، يعمل في التلفزيون العربي، ويقيم في لندن
عمار السواد