إسرائيل: ليس كل اللاجئين الأوكرانيين سواء!
عندما اتهم تقرير موثق لمنظمة العفو الدولية، الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، إسرائيل صراحة بأنها نظام فصل عنصري (أبارتهايد)، جرّاء عقود مستمرّة "من القمع والهيمنة" التي تفرضها على الفلسطينيين، جُنَّ جنون تل أبيب، وكان الرد مبتذلاً ومعتاداً: "هذه هي بالضبط العناصر التي تنبثق منها معاداة السامية الحديثة". هكذا قالت حينها الخارجية الإسرائيلية، زاعمة أن إدانة التقرير الدولة العبرية بوصفها دولة أبارتهايد "تلغي حقّ إسرائيل في الوجود كدولة قومية للشعب اليهودي". اليوم، تثبت إسرائيل أنها ليست نظام فصل عنصري ضد الفلسطينيين فحسب، بل هي دولة تمارس التمييز ضد كل من هو غير يهودي، حتى ولو كان أوروبياً مسيحياً أبيض، أشقر الشعر، أزرق العينين. ملخص الأمر أن الصهيونية أيديولوجية بغيضة تؤمن بتفوق اليهودي على من سواه، ولا ترى إنسانيةً مكتملةً إلا إذا كانت محصورة فيه. هذا ليس إلقاء للتهم جزافاً، بل هي حقيقة تثبتها أحداث راهنة، إلى درجةٍ ضَجَّ من فجاجتها عدد من تيارات السياسة ومؤسسات المجتمع المدني والإعلام الإسرائيلي.
في الأزمة الأوكرانية، تجد إسرائيل نفسها في معضلة ووضع حرج. من ناحية، هي لا تريد أن تستفزّ روسيا إلى درجةٍ تتعقد فيه عملياتها في سورية. ومن ناحية أخرى، ثمَّة ضغوط أميركية وأوروبية وأوكرانية عليها لأخذ موقفٍ معارضٍ للغزو الروسي، والانضمام إلى العقوبات الغربية ضد موسكو. لا أريد أن أستطرد كثيراً هنا، فهذا ليس موضوع المقال، ولا حتى أحاديث "الوساطة" الإسرائيلية بين الطرفين، الروسي والأوكراني. المعضلة الراهنة التي تواجهها إسرائيل في الأزمة الأوكرانية أكبر من الموازنة بين مصالحها الأمنية ومطالب حلفائها، إذ إنها تمسّ وتتصل مباشرة ببنيتها الأيديولوجية العنصرية، وهو ما عرَّى وجهها البغيض، من دون رتوش ولا مساحيق تجميل هذه المرّة. يتعلق الأمر هنا باللاجئين الأوكرانيين الفارّين من جحيم الحرب وويلاتها، وبعضهم اختار الذهاب إلى الدولة العبرية باحثين عن الأمن والسلامة. لكن، هؤلاء اكتشفوا أن ثمَّة نظامين، تتبناهما إسرائيل في هذا السياق: الأول خاص باللاجئين الأوكرانيين اليهود، وهؤلاء مرحّب بهم، والثاني مصمّم للاجئين الأوكرانيين من غير اليهود، وهم غير مرحّب بهم. مرة أخرى، هذه ليست مزاعم ولا اتهامات من دون أدلة، بل هي حقائق لا يتردّد قادة الكيان الصهيوني بالبوح بها.
إسرائيل وأوكرانيا ترتبطان باتفاقية إعفاء من التأشيرة لمواطني البلدين، إلا أن تل أبيب علقت العمل بها، وهو الأمر الذي أثار غضب الحكومة الأوكرانية واستياءها
مع بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، سارعت الحكومة الإسرائيلية إلى استغلال الفرصة وتكثيف جهودها، بالتنسيق مع الوكالة اليهودية، عبر وضع "خطة طوارئ" لاستقدام أكثر من 200 ألف يهودي من أوكرانيا وتوطينهم في فلسطين المحتلة. حسب الأيديولوجيا الصهيونية والقانون الإسرائيلي، يحقّ لأي يهودي في العالم الهجرة إلى إسرائيل بموجب "قانون العودة". في غضون ذلك، صادق الكنيست الإسرائيلي، في 10 مارس/ آذار الجاري، على تمديد ما يسمى "قانون المواطنة" الذي يمنع لمَّ شمل العائلات الفلسطينية، من أصحاب الأرض الأصليين. وكان الكنيست قد أقرّ هذا القانون عام 2003، ويمدّده سنوياً، ويُمنع بموجبه لمُّ الشمل بين المقدسيين وحملة الجنسية الإسرائيلية من الفلسطينيين من جهة، والأزواج من الضفة الغربية وقطاع غزة ولبنان وسورية والعراق وإيران، من جهة أخرى. بطبيعة الحال، فإن مثل هذه العنصرية البغيضة التي تعلن تفوق اليهودي ودونية الفلسطيني لن، ولم تستفز مشاعر كثيرين في إسرائيل، ولا في العالم الغربي، ولكن أن يصل الأمر إلى مسيحيين من أصول أوروبية، فإن هذا يتطلّب مقاربة أخلاقية انتقائية أخرى، أو هكذا يفترض.
من سوء حظ المؤسسة العنصرية الإسرائيلية، ليس كل اللاجئين الأوكرانيين يهوداً. ومن حسن حظ الحقيقة، لا ترى وزيرة الداخلية الإسرائيلية، آيليت شاكيد، التي تخضع سلطات الهجرة واللجوء لولايتها يمينية متطرّفة، داعياً للاعتذار عن، أو التعمية على، عنصريتها وإيمانها بتفوق العنصر اليهودي على ما سواه. تنتمي شاكيد إلى حزب رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينت، (اليمين الجديد). هي لا ترى تعارضاً بين ترسيخ يهودية الدولة وزعم ديمقراطيتها، وهو الأمر الذي جرى صكّه عبر ما يسمى "قانون الدولة القومية لليهود في إسرائيل"، وأقرّه الكنيست الإسرائيلي عام 2018. ومن دون تردّد يمكن القول إن هذا القانون يصلح أن يستلهمه أنصار تفوق البيض في أميركا مانفيستو لهم، ذلك أنه يُدَسْتِرُ تفوق المواطنين اليهود في دولة إسرائيل على غيرهم من المواطنين الآخرين.
في سياق أزمة اللاجئين الأوكرانيين الراهنة، وثقت الصحافة الإسرائيلية المعاملة غير الإنسانية التي مورست بحق كثيرين من غير اليهود بينهم. ووصل الأمر إلى احتجازهم في المطار في ظروف سيئة، جرى نقل بعضهم إلى فندقين في تل أبيب بعد احتجاجات، واعتقال مئات منهم وإعادتهم على متن الطائرات التي وصلوا عليها. لم يجفل جفن شاكيد وهي تعلن بكل وقاحة: "نتفهم، نحن الشعب اليهودي، التعرّض للاضطهاد معاناة اللاجئين. أيضاً نفتح قلوبنا وأبوابنا لغير المؤهلين للحصول على الجنسية". لكنها استدركت: "مثل هذه الخطوة يجب أن تجري ضمن نطاق محدود. لا يمكننا فتح أبوابنا للجميع. لن يحدُث ذلك ما دمت أنا المسؤولة".
لم تعد أحابيل خداع إسرائيل تنطلي إلا على من يختار التواطؤ معها طوعاً، وقصة اللاجئين الأوكرانيين ستكون امتحاناً أخلاقياً عسيراً
ومع تصاعد الانتقادات التي وجهت إليها، أعلنت شاكيد أنها ستسمح باستقبال لاجئين أوكرانيين غير يهود إذا كانت لهم عائلات في إسرائيل، لكنها رهنت ذلك بإيداع مبالغ مالية كبيرة، لا يملكها أغلبهم، لضمان مغادرتهم بعد الحرب. ثمَّ إنها سمحت لخمسة آلاف لاجئ أوكراني غير يهودي، ممن ليس لهم عائلات في إسرائيل، بالبقاء إلى أجل قصير، لكن وزارتها منعتهم من الاستفادة من قانون التأمين الصحي الرسمي، أو العمل، أو إرسال أولادهم إلى المدارس، وهي أمور تتناقض والتزامات إسرائيل بموجب اتفاقية جنيف للاجئين لعام 1951. وفي كل الأحوال، الحكومة الإسرائيلية حازمة في موقفها، أن العدد الكلي للاجئين الأوكرانيين من غير اليهود الذين ستسمح لهم بالبقاء في البلاد مدة محدّدة، لن يتجاوز خمسة وعشرين ألف شخص، ويشمل هذا الرقم من لديهم عائلات هناك ومن ليس لديهم عائلات. المفارقة المَّريرة هنا إن إسرائيل وأوكرانيا ترتبطان باتفاقية إعفاء من التأشيرة لمواطني البلدين، إلا أن تل أبيب علقت العمل بها، وهو الأمر الذي أثار غضب الحكومة الأوكرانية واستياءها.
باختصار، يمكن لإسرائيل أن تبقى تكذب صباح مساء أنها واحة ديمقراطية غَنّاءُ في وسط صحراء من الديكتاتوريات الصلدة. لكن عين الشمس لا يمكن أن تُغطى بغربال، ومفادها بأن إسرائيل لا تقل نفاقاً وعنصرية عن كثير من دول الغرب التي تزعم التَحَضُرَ والمدنية، وهي غير قادرة على العيش من دون صحراء البؤس الديكتاتوري الرسميِّ العربي، فذلك ما يمكنها من عقد المقارنات والتمايز مع محيط متوحش، هي جزء أساسي منه وفيه، غير أنها تحاول التَجَمُّل. المشكلة بالنسبة لإسرائيل أن اللعبة انكشفت في أوساط كثيرة في الغرب، ولم تعد أحابيل خداعها تنطلي إلا على من يختار التواطؤ معها طوعاً، وقصة اللاجئين الأوكرانيين ستكون امتحاناً أخلاقياً عسيراً لهم جميعاً.