إسرائيل دولة حرب... ولا شيء آخر

إسرائيل دولة حرب... ولا شيء آخر

29 نوفمبر 2023
+ الخط -

تتردّد آراءٌ أن عملية طوفان الأقصى ليست سوى تحرّشٍ غير مدروس من مليشيا مقاومة صغيرة بالكيان الصهيوني المتفوّق عسكرياً، وأنّ العدوان الإسرائيلي على غزّة هو للردّ على كتائب عز الدين القسّام، ولو لم تقم بهذه العملية لما كان الاعتداء، وأن على "حماس" الانسحاب من غزّة لإيقاف المجزرة. هذه الرؤية للحقيقة مقلوبة، وتتناسى أن حكومة نتنياهو، المشكّلة في 29 ديسمبر/ كانون الأول 2022، بعد انتخابات الكنيست، والتي تضم قادة أحزاب يمينية ويمينيّة متطرّفة، هي حكومة حرب، وجرى تصميمها لتقوم بهذه الحرب، بغرض تهجير أهالي القطاع، وكانت تنتظر ساعة الصفر؛ وما فعلته كتائب القسام مفاجأة جيش الاحتلال واستخباراته بعمليذة 7 أكتوبر، وإرباكه، وقلب النتيجة، بمعنى عدم تحقيق هدفها في إزاحة سكّان القطاع، أو جزء منهم، بل ما تحقّق عملياً أن وحشية العدوان الإسرائيلي أتت بتضامن شعبي عالمي، وأعادت طرح النقاش بشأن حقوق الفلسطينيين، بل وأسقطت كل الخيارات حول الحلول المرحلية ووهم حلّ الدولتين الذي يطرحه الغرب، رغم عدم واقعيته بالنسبة لإسرائيل ذاتها، بوصفها كيانا استيطانيا، ببنية ديمغرافية واقتصادية غير قادرة على البقاء من دون الاستمرار في التوسّع والسيطرة على كل فلسطين.

بات تهجير أهالي قطاع غزّة وإخضاعه حاجة ملحّة للكيان الصهيوني، وهي جزء من حاجته المستمرّة للتوسّع الاستيطاني (في الضفة) من جهة، ولتهجير أكبر عدد من الفلسطينيين (من القطاع) من جهة أخرى، لضمان استمراره. أي أن الحرب على قطاع غزّة لا يتحمّل مسؤوليتها نتنياهو وبن غفير وزملاؤهما في الحكومة فقط، بل هي قرار استراتيجي إسرائيلي، واختيرت لتنفيذه مجموعة من القادة المارقين، الخارجين عن القانون الإسرائيلي والمطلوبين للقضاء، وذوي طروحاتٍ متطرّفة تدعو إلى استخدام القوة ضدّ الفلسطينيين، وتعزيز الاستيطان، وإلى دولة لليهود، وفي مقدمهم رئيس الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، ووزير المالية والوزير الثاني في وزارة الدفاع، بتسلئيل سموتريتش، إضافة إلى زعيم حزب الليكود بنيامين نتنياهو وآخرين؛ وهؤلاء أوراق محروقة في دولة الاحتلال، وقد يُقدّمون كبش فداء للقضاء الدولي، لتحميلهم مسؤولية المجازر التي ارتُكبت، أخيرا، في قطاع غزّة، بعد أن تحقّق الحملة العسكرية غرضها بالنسبة لدولة إسرائيل.

بات تهجير أهالي قطاع غزّة وإخضاعه حاجة ملحّة للكيان الصهيوني، وهي جزء من حاجته المستمرّة للتوسّع الاستيطاني (في الضفة) ولتهجير أكبر عدد من الفلسطينيين (من القطاع)

من الأسباب العميقة التي فرضت على الكيان الصهيوني التخطيط لتهجير القطاع، إضافة إلى التوسّع ببناء المستوطنات في الضفة، ما هي مرتبطة باتفاقيات التطبيع مع العرب، التي تصبّ ضمن طموح قادة إسرائيل إلى جعلها دولة إقليمية في محيطٍ عربي، وتلتقي مع الرغبة الأميركية في تشكيل "ناتو عربي" تقودُه إسرائيل في مواجهة إيران. يصطدم تطور إسرائيل بشكل طبيعي إلى دولة إقليمية بقدراتها المحدودة، فهناك الأزمة الديمغرافية، وتراجع الهجرة إلى الكيان، والحاجة إلى اليد العاملة والسوق المحلية الكبيرة وأزمة المياه ونقص الأراضي الزراعية، والمواد الخام ومصادر الطاقة، وهذا يعني السيطرة على مزيد من الأراضي في الضفة الغربية، والتوسّع في بناء المستوطنات، وهو ما تكثّف في ظلّ حكومة نتنياهو منذ عام، وكذلك تهجير قطاع غزّة الذي يمثّل بالنسبة لها قنبلة ديمغرافية، وبالتالي مشكلة أمنية، وهو خيار الحرب الذي كانت تنوي القيام به في أي وقت، ظناً منها أن العرب باتوا مستسلمين للاحتلال المتفوّق عليهم عسكرياً، وقد أثبتت عملية 7 أكتوبر عكس ذلك. كانوا يريدون غزّة بحكومة خانعة لسلطة الاحتلال، وتسمح بإدماج اقتصادها ضمن الدورة الاقتصادية لدولة الاحتلال، في تركيبة معقّدة، تحقّق سيطرة طبقة رأسمالية يهودية، ويشكّل اليهود فيها الطبقة الوسطى الأوسع، واستغلال كامل للعرب في الشرائح الدنيا، على غرار ما يحصل في الضفة الغربية، إضافة إلى الحاجة إلى تأمين مشاريع الطرق التجارية من الهند وعبر العالم العربي وإسرائيل إلى أوروبا. بينما ذهب المتطرّفون في حكومة نتنياهو إلى خيار التهجير الكامل للعرب في القطاع، وطرح الاستغناء عن العرب في الضفة، وفي أراضي الـ48، انسجاماً مع طروحاتهم بدولة يهودية خالصة، طُرحت في 1920، وتم تغيير هذه الاستراتيجية، لأسبابٍ موضوعية تتعلق بالأزمة الديمغرافية للاحتلال، إلى نموذج يشبه دولة جنوب أفريقيا، أي أقلية وافدة مسيطرة تحكم الأغلبية الأصلية. أما خيارات نتنياهو البديلة فهي استقدام عمال آسيويين بديلا عن اليد العاملة العربية.

الحرب سمة لدولة الاحتلال الاستيطاني، بوصفها ضرورة بنيوية لاستمرار قيام الدولة، هذا يجعل اقتصادها اقتصاد حرب

الحرب سمة لدولة الاحتلال الاستيطاني، بوصفها ضرورة بنيوية لاستمرار قيام الدولة، هذا يجعل اقتصادها اقتصاد حرب، فإضافة إلى موازنة الجيش الضخمة، هناك رأس مال ثابت وغير منتج لزوم بناء المستوطنات وتحسين البنية التحتية، وهذا يجعل الاقتصاد الإسرائيلي مأزوماً دوماً، والحل بمزيدٍ من التوسّع. وقد اقتضت هذه الاستراتيجية عسكرة المجتمع المدني؛ فنسبة القوات العاملة في الجيش والاحتياط كبيرة قياساً بعدد السكان، كما أن الضباط السابقين يتولّون الوزارات وإدارات الشركات وفي كل بنية الدولة. ورأينا أن استدعاء 360 ألف جندي احتياط في الحرب على غزّة تسبب في شللٍ في قطاعات حيوية مثل التكنولوجيا.

رعت إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، الاتفاقات الإبراهيمية، فيما كان الرئيس بايدن ماضيا في إتمام اتفاقات التطبيع العربي، وقبول إسرائيل في المحيط العربي، من أجل سيطرتها على هذا المحيط، ليس بالوسائل السلمية، بل عبر تفوّقها العسكري النوعي. وإذا كان الاقتصاد الإسرائيلي ذا بنية هشّة، تتطلب التوسع الدائم والحرب، فإن الولايات المتحدة هي من يموّل هذه الحروب، بمساعدات عسكرية وتقنية متطوّرة، ومساعدات "إنسانية" لبناء المستوطنات للمهاجرين، وتسهيلات للقروض، وبالتالي، دولة الاحتلال مسنودة أميركياً، عسكرياً واقتصادياً. هذا يقودنا إلى الحديث عن دور الكيان الصهيوني كجزء من الاستراتيجية الأميركية للسيطرة على المنطقة. في السابق، كان ذلك ضد نفوذ الاتحاد السوفييتي، والآن ضد توسع النفوذ الصيني والروسي. وهذا يجعل إسرائيل قاعدة أميركية، ولقوات الانتشار السريع، وفيها مخازن الأسلحة الأميركية التي أنشأها البنتاغون، ويعمل بايدن الآن على إزالة القيود التي تحدّ من استخدام إسرائيل لهذه الأسلحة في الحرب على غزّة.