إسرائيل التي تريد إخراس العالم
لا يسعى المحتلّ الوقح إلى تبرير جرائمه بحقّ الشعب الذي يرزح تحت نيْر احتلاله فحسب، بل ويبتزّ العالم بوصفه كان ضحيةً يوماً ما، ورغم أنه دولة احتلالٍ فهذا لا يمنع أن يكون ضحيّة من يحتله أيضاً. هذا ما تفعله إسرائيل، وعلى العالم أن يقرّ للاحتلال بحقّه في إبادة الشعب المحتلّ، لأن هذا الشعب تجرّأ وكشف ثغرةً في أمن الدولة المعسكر التي تُرعب المحيط الجغرافي، وكشف أن كل التكنولوجيا المتطوّرة المستخدمة في اعتقال شعب وحبسه ومنع استقلاله، لن تمنع هذا الشعب من تحدّي عنجهية المحتل وغطرسته، والعمل الحثيث على المسّ بأمنه، كما يمسّ الاحتلال يومياً بحياة الفلسطينيين الذين يتعرّضون للقتل والاعتقال ومصادرة أملاكهم وتعذيبهم على الحواجز العسكرية، ومحاصرتهم سنواتٍ طويلة في قطاع غزّة.
في الوقت الذي تخوض فيه إسرائيل عدواناً سافراً على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، ويدّعي القادة الإسرائيليون أنهم يخوضون حربَهم، "دفاعاً عن النفس" ضد "إرهاب حماس" هم لا يقنعون أنفسهم بمشروعية حربهم التي يرتكبون فيها جرائم حرب، ترقى إلى حدّ الإبادة الجماعية" حسب الدعوى الشجاعة التي تقدّمت بها دولة جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي. كل المستويات السياسية، من رئيس الدولة إسحق هرتسوغ، إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، إلى وزير الدفاع يوآف غالانت، إلى المتطرّفين في الحكومة الإسرائيلية، وزيري المالية والأمن بتسلئيل سموتريش وإيتمار بن غفير... وغيرهم الكثير. أدلوا بتصريحاتٍ تحمل مضموناً عنصرياً وتتضمّن مخطّطات إبادة جماعةٍ وتهجير جماعي بحقّ سكان غزّة، وهذا ما وثّقته بجدارة المرافعة الموضوعية التي تقدّمت بها دولة جنوب أفريقيا في المحكمة.
لا تريد إسرائيل بحكومتها اليمينية المتطرّفة، أن تقول شيئاً عن اليوم التالي للحرب. ما يصرّ نتنياهو عليه باستمرار هو هدف الحرب، القضاء على حركة حماس واستعادة المخطوفين. ورغم أنهما هدفان متعارضان كما قال عسكريون إسرائيليون سابقون عديدون، كما أنها أهدافٌ غير واقعية. إلا أن نتنياهو وعصابته يعتقدون أن تكرار الكلام عن أهداف الحرب التي لا تراجع عنها، والحديث عن حربٍ طويلةٍ حتى نهاية العام الحالي، يغطّي على الفشل الذي حصل في 7 أكتوبر، ويؤجّل المحاسبة في لجان التحقيق فحسب، بل هو يغطّي أيضاً على الحديث عما ستفعله إسرائيل في اليوم التالي للحرب، حتى لو حقّقت أهدافها بشكل مثالي. كل ما يقوله نتنياهو، ردّاً على أسئلة ما بعد الحرب، إنه لا يريد حماسستان ولا فتحستان في قطاع غزّة، بمعنى هو يرفض رفضاً قاطعاً عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزّة، وهو ما تريده الولايات المتحدة بأن تستلم سلطة محسّنة عن السلطة الفلسطينية قطاع غزّة بعد الحرب. ونتنياهو يقول إن سيطرة أمنية دائمة ستكون ما بين نهر الأردن والبحر المتوسط، تترجم "سيطرة أمنية" إلى احتلال دائم.
يرفض نتنياهو الكلام عن الدولة الفلسطينية خياراً في المستقبل القريب أو البعيد
تعمل الإدارة الأميركية على إخراج الوضع المتهاوي الذي فرضته الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة على المنطقة لحفظ ماء الوجه، من خلال إطلاق عملية معقدة، يكون فيها التطبيع بين إسرائيل والعربية السعودية الهدية التي تقدّمها الولايات المتحدة لإسرائيل، والتي تحتاج مقابلها إلى اعتراف إسرائيل بمسارٍ طويلٍ للوصول إلى الدولة الفلسطينية، مسار قابل للارتداد، رغم مطلب وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان الذي قال لـ "سي إن إن" إن بلاده منفتحة على تطبيع العلاقات مع إسرائيل فقط إذا كانت هناك عملية لا رجعة فيها لإنشاء دولة فلسطينية. رغم إصرار الإدارة الأميركية على إعلان إسرائيلي بأن هناك دولة فلسطينية في نهاية الطريق، وأن هذا الطريق الزمني غير محدود، خصوصا أن الرئيس الأميركي عندما حشد لدعم أوكرانيا في مواجهة الاحتلال الروسي، وأثناء زيارته رام الله، قال بشكل واضح، إنه يعتقد بحقّ الفلسطينيين بدولة، لكنها لن تكون "في المدى المنظور".
طالب مسؤولون أميركيون كثيرون إسرائيل بأن يكون هدف إنشاء دولة فلسطينية جزءاً من مسار ما بعد الحرب، وجاء الرفض من نتنياهو أي كلام عن الدولة الفلسطينية كخيار في المستقبل القريب أو البعيد. وعندما حاول الرئيس بايدن تخفيف حدّة رفض نتنياهو بالقول إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لا يعارض حلّ الدولتين، مضيفا أن ثمة أنماطاً مختلفة لهذه الدولة، سرعان ما نفى نتنياهو أقوال بايدن.
تسود روح انتقام المحتل في إسرائيل، والتي لا ترى الحلّ سوى بإراقة دماء الفلسطينيين والسيطرة عليهم
من خلال التجربة التاريخية مع الإدارات الأميركية المتعاقبة، يمكن رصد تراجع الموقف الأميركي المستمرّ من القضية الفلسطينية، بانحياز فاضح لإسرائيل. وحديث الإدارة الأميركية عن دولة فلسطينية في مستقبل غير منظور هو بيع الوهم للمنطقة وللفلسطينيين تحديداً، ويتم استخدامه في هذه الفترة لسببين: الأول، لأسبابٍ انتخابية أميركية، فإدارة بايدن مُقدمة على انتخابات رئاسية نهاية العام. الثاني، لأسبابٍ تتعلق بترتيب الوضع لعملية تطبيع كبرى بين إسرائيل والسعودية. أما في الجانب الإسرائيلي فإن رفض الحديث عن مسار دولة فلسطينية لا يتعلق بالمتطرّفين في حكومة نتنياهو فحسب، بل هو يشمل كل النخبة السياسية في إسرائيل، وقد دعا هرتسوغ والمحسوب على (التيار المعتدل!) إلى تأجيل الحديث بشأن حلّ الدولتين، قائلا إن "الوقت ليس مناسباً للحديث عن إقامة دولة فلسطينية مستقلة". ولكن في الوقت الذي يتجاهل فيه الرئيس "المعتدل" الحديث عن دولة فلسطينية، يقول بوقاحة: "ندرك جميعاً أنه يجب أن تكون هناك رؤية، وأعتقد أن جزءاً منها يجب أن يكون العودة إلى عملية التطبيع بين إسرائيل وجيرانها في المنطقة".
تسود روح انتقام المحتلّ في إسرائيل، والتي لا ترى الحلّ سوى بإراقة دماء الفلسطينيين والسيطرة عليهم، متحدّية كل الدول التي تدعمها التي ترى أن لا حلّ من دون حلّ المشكلة الفلسطينية بإقامة دولة فلسطينية. أما إسرائيل فهي ترى على العالم أن يدعمَها في حربها على الفلسطينيين، عندما ترمي عرض الحائط برؤية حلفائها للحلّ، وحتى تتحدّى الولايات المتحدة والحامية لها. وعلى العالم أن يخرس عندما يختلف مع إسرائيل، وأن يستمرّ بدعم جرائمها. وحسب أستاذة السياسة الخارجية والأمنية الأميركية بجامعة كولومبيا، فيرجينيا بيج فورتنا، فإن الضغط الأميركي على نتنياهو "هو فقط الذي يمكن أن يشكّل فارقاً في مسار الحرب وليس جزرة التطبيع، نظراً إلى تصريحاته المعادية لإنشاء دولة فلسطينية"، وغير ذلك سيبقى العالم يدعم الإجرام الوقح.