إجراءات الدولة الاستبدادية
لطالما خامرتني فكرةُ أنّ كثيرين من رجالات النظام السياسي العراقي الحالي يكرهون صدّام حسين، ولكنّهم يعشقون نظامه، ويتمنّون لو أنّ الزمن يعود لنكون في أجواء الحرب الباردة، إذ تتيح التوازنات ما بين قطبَين كبيرَين لكثيرين في دول العالم الثالث أو دول الجنوب أن يعيثوا في أرضهم وشعبهم فساداً، من دون حسيب أو رقيب، والإمكانات التقنية المحدودة لذلك العصر تتيح بسهولة للسلطة أن تمسك برقبة الإعلام والمعلومات، وحتّى الإذاعات العربية في المهاجر أو الناطقة بالعربية، كما هو القسم العربي في إذاعتي بي بي سي ومونت كارلو، كانت السلطات قادرةً على وضع مرسلات للتشويش.
كان زمناً تستطيع فيه السلطة أن تضع المجتمع كلّه في علبة وتغلق عليه، فلا يعرف إلّا ما تريده السلطة، ولا ينشغل إلّا بتلك القضايا التي تضعها السلطة في ماكينتها الدعائية. أمّا اليوم فإنّ السلطة تستطيع إرهاب المجتمع فقط، أمّا حجب المعلومات، أو منع المواطنين داخل البلد من التواصل مع معارضي السلطة، أو الاستماع لتسجيلاتهم على "يوتيوب"، أو متابعة صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي... هذا صار شبه مستحيل. بالإضافة إلى أنّ انفتاح فضاء التواصل جعل جميع الأفراد قادرين على تلقّي ما يريدون من معلومات، وفي الوقت نفسه؛ أن يكونوا هم منصّاتٍ لبثّ المعلومات والآراء ووجهات النظر. إنّه فضاء صاخب أشبه بالكابوس للسلطة التي تريد السيطرة على المجتمع بالطرائق والوسائل البدائية القديمة.
إنّ مسار تعامل السلطة في العراق ما بعد 2003 مع الحريّة، خلال عشرين عاماً، يرينا بوضوح أنّها رغم إقرار هذه الحريّة في الدستور، لم تكن مُستعدَّة للتعامل معها، وبذلت جهدها للتضييق عليها، ولعلّ أبرز علاماتها المُبكِّرة هو التعامل مع الهيئات المُستقلَّة، كما هي مفوضية الانتخابات، وهيئة الإعلام والاتّصالات، ومفوضية حقوق الإنسان، وهيئة النزاهة، وغيرها، التي يُصادَق على تعيين رؤسائها في البرلمان العراقي، ولكن انتهى الحال أن تكون هذه الهيئات جزءاً من نظام المُحاصصة، ويشغل المناصب الحسّاسة فيها أعضاءٌ مقرّبون من رؤساء أحزاب وتيّارات سياسية حاكمة.
كذلك الأمر مع النقابات، فكثير منها يخضع لإملاءات السلطة، ولا يتصرّف بما هو متوقّع؛ حماية أعضاء النقابة والدفاع عنهم أمام جور السلطة أو في التنازع مع مؤسّسات الدولة. هناك نقابات ما زال رؤساؤها في كراسيهم منذ عشرين سنة، ويمنحون فروض الطاعة والولاء لكلّ رئيس وزراء جديد في العراق. لذلك لم يكن من المستغرب أن تصدر نقابة المحامين مثلاً، على خلفية السجال حول مقترح تعديل قانون الأحوال الشخصية، تعليماتٍ مطلع أغسطس/ آب الماضي تحذّر المحامين المنتمين لها من "نشر معلومات مُضلِّلة"، وتفرض على من يريد أن يظهر في وسائل الإعلام أن يحصل على موافقة مسبّقة من النقابة، ثمّ تبعتها خلال الأسبوع الماضي بإجراءات تُجمّد عضوية محاميات ظهرن في وسائل الإعلام لانتقاد مقترح تعديل قانون الأحوال الشخصية.
تكرّر الأمر نفسه مع وزارة التعليم العالي العراقية، التي فرضت إجراءات مُقيّدة لظهور الأساتذة على القنوات الفضائية، وقبلها بأشهر انتشرت وثيقةٌ تتضمّن تعهّداً مفروضاً على موظّفي بعض الدوائر الحكومية بعدم نشر انتقادات في وسائل التواصل الاجتماعي. وفوق هذا وذاك، فإنّ أجهزة الدولة الأمنية والتنفيذية غير قادرة على حماية المواطنين من اعتداء التيّارات السياسية أو المليشيات على المواطنين، على أثر رأي مكتوب في "فيسبوك" مثلاً، وقد شاهدنا قبل أسابيع مقطع فيديو لرجل يقوم بحلاقة شعر رأس ابنه، لأنّه انتقد زعيماً سياسياً، والأب فعل ذلك إجراءً استباقيّاً، ونوعاً من الاعتذار، قبل أن يهجم أتباع هذا الزعيم السياسي على بيته.
قد تكون السلطة أضعف من إمكانية ردع هذه التعدّيات، أو ربّما هي مرتاحة لها، فأجواء الإرهاب، حتّى إن لم تصدر من السلطة مباشرة، فإنهّا تُشيع جوّاً من الحذر والريبة والخوف، يقلّص من مساحة الحرّية، ويقلّص بالتالي من جرأة المواطنين على انتقاد الأوضاع العامة.