أي سقفٍ للتحديث في قانون الأسرة المغربي؟
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
بعد مضي قرابة 20 عاما على العمل في المغرب بمقتضيات مدوّنة الأسرة (قانون الأحوال الشخصية)، قرّر الملك محمد السادس مراجعة هذا القانون، للمرّة الثانية منذ توليه الحكم، فهذه المدوّنة التي شكلت عند إصدارها، عام 2004، قفزة نوعية إلى الأمام، أضحت اليوم غير كافية، إذ سبق للعاهل المغربي أن قال، في خطاب العرش، إن "التجربة أبانت أن هناك عدة عوائق، تقف أمام استكمال هذه المسيرة، وتحول دون تحقيق أهدافها". وعليه، يكون التدخّل واجبا لتجاوز ما شابها من نواقص، كشفت عنها سنوات التطبيق على أرض الواقع.
صحيحٌ أن أي قانون بحاجة للمراجعة المستمرّة، حتى يكون قادرا على مواكبة تطوّر المجتمع، فالقاعدة القانونية اجتماعية بطبعها، بذلك يكون التعديل، وحتى الإلغاء، مصيرا محتوما ينتظر كل نصّ قانوني منذ صدوره. لكن قانون الأسرة في المغرب يكتسي خصوصيةً فريدة، فقد كان باستمرار موضوع صراع وتجاذبٍ بين أطياف المجتمع المغربي؛ فالتيار الحداثي ينزع دوما نحو المرجعية الكونية، مقابل تمسّك القوى المحافظة بالمرجعية الإسلامية. وقامت المؤسّسة الملكية في أكثر من محطة؛ تعديلات قانون 1993 ومدوّنة 2004، بدور حاسم في مراجعة هذا القانون، باعتماد آلية التحكيم الملكي بين الطرفين.
تعديل قانون الأسرة هذه المرّة مختلف؛ سياقا ومنهجا ودلالة، مقارنة مع المراجعات السابقة؛ سواء المتعلقة بأول تقنين بعد الاستعمار؛ أي قانون "الأحوال الشخصية" (1957) مع الملك الراحل محمد الخامس، أو المراجعة الجزئية للقانون، في تسعينيات القرن الماضي، إبّان عهد الحسن الثاني، وصولا إلى ما اعتبر مع حكم محمد السادس استفتاءً مجتمعيا بشأن مرجعية الدولة في المغرب، بإقرار "مدوّنة الأسرة" (2004).
الأصل أن التشريع في مجال الأسرة، وبنصّ الدستور، محفوظ للمؤسّسة الملكية، تمارسه عادة من خلال لجان ملكية استشارية
منهجيا، يمثل إسناد مهمّة مراجعة قانون الأسرة إلى رئاسة الحكومة سابقة في تاريخ هذا القانون، فالأصل أن التشريع في مجال الأسرة، وبنصّ الدستور، محفوظ للمؤسّسة الملكية، تمارسه عادة من خلال لجان ملكية استشارية، تتولّى مهمة إعداد مشروع ترفعه إلى الملك بصفته أميرا للمؤمنين للبتّ فيه، قبل اعتماده رسميا. تحدّث بلاغ (بيان) الديوان الملكي عن تكليف جماعيٍّ ثلاثيّ الأقطاب، يضم وزارة العدل (السلطة التنفيذية) والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة (السلطة القضائية)، لإعداد مشروع قانونٍ جديدٍ خلال سقف زمني لا يتعدى نصف سنة. وحث البلاغ، الثلاثي المكلف بالإصلاح، على إشراك هيئات معينة في المشروع، تتمثّل أساسا في المجلس العلمي الأعلى والمجلس الوطني لحقوق الإنسان والوزارة المكلفة بالأسرة والتضامن والإدماج الاجتماعي، من دون أن يفصل في طبيعة ذلك وكيفيته، هل يكون بتقديم مقترحاتٍ أم إبداء الرأي أو فقط الاستماع عند الحاجة؟
وشكّل سياق التعديل بدوره مفارقة، فمغرب 2023 غير مغرب 2001، حين احتدم النقاش، مع حكومة التناوب بقيادة الراحل عبد الرحمن اليوسفي، بشأن إصلاح قانون الأسرة، أو ما عُرف بمشروع "الخطّة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية"، إلى درجة الانقسام المجتمعي الواضح بين التيار الحداثي؛ ممثلا في أحزاب الائتلاف الحكومي، وطيف من التنظيمات المدنية التقدّمية، والقوى المحافظة، بقيادة حزب العدالة والتنمية المعارض وباقي الحركات الإسلامية وعلماء القرويين... والذي بلغ مستوى النزول إلى الشارع بمظاهرتيْن كبيرتين للمؤيدين في الرباط والمعارضين في الدار البيضاء.
مدوّنة الأسرة بحاجة إلى إعادة نظر، فعديد من مقتضياتها باتت متجاوَزة بحكم سرعة التحوّل داخل المجتمع المغربي
لا شيء من ذلك اليوم، فالاستقطاب داخل المجتمع تلاشى بعد "احتراق" الإسلاميين في تجربة حكومية كلفتهم الكثير؛ إيديولوجيا وجماهيريا، فالمحافظة أضحت حالة ذاتية (تديّن فردي) أكثر منها انتماءً أو تنظيما، وحتى ظاهرة "الشيوخ الجدد" أو "دعاة مواقع التواصل الاجتماعي" تبقى بلا أثر، لأن أصحابها حريصون على التزام مسافة أمانٍ عن كل ما من شأنه أن يقضّ مضجع السلطة. يقلّل ذلك كله من فرص رفض القانون المقبل ومعارضته كيفما كانت مضامينه، وخير دليل على ذلك مباركة التنظيمات والهيئات المحسوبة على التيار المحافظ (سياسية ودعوية ونسائية...) هذه المبادرة وإشادتها بها، من دون أدنى تحفّظ أو احتراز.
لا مراء في أن مدوّنة الأسرة القائمة بحاجة إلى إعادة نظر، فعديد من مقتضياتها باتت متجاوَزة بحكم سرعة التحوّل داخل المجتمع المغربي، فزواج القاصر (أقلّ من 18 سنة) الذي كان استثناء في المدوّنة أضحى قاعدة باقتراب الرقم من 21 ألف حالة زواج برسم 2021. ناهيك عن المنحى التصاعدي لإنهاء ميثاق الزوجية (الطلاق أو التطليق أو الخلع)، بتسجيل المغرب قرابة 300 ألف حالة عام 2022. ولا تزال مسألة إثبات النسب محلّ سجال كبير، بتحفّظ قضاةٍ كثيرين على الأخذ بالخبرة الطبية؛ أي اعتماد الحمض النووي، في تحديد نسب الطفل، بداعي أن الطفل لم يولد من علاقة شرعية. كما أن تطبيق عُرف الكدّ والسعاية (حقّ الشقا) المرتبط بالأموال المكتسبة خلال قيام العلاقة الزوجية، رغم إقراره بنصّ المادة 49، ظلّ معلقا لما يكتنفه من غموضٍ والتباس... وهلم جرا من المسائل التي تستدعي "تحيين" النص، تفاعلا مع حركية المجتمع (القانون)، وقبل ذلك تجاوزا لعوائق الممارسة في الواقع (القضاء).
تحديث نصوص مدوّنة الأسرة رغبة تحدو المغاربة قاطبة، ما دام الهدف تحقيق العدل والإنصاف لكل مكوّنات الأسرة المغربية
أضحى المغاربة مقتنعين بأن تعديل القانون بات واجبا وضرورة، وإنْ كانت المخاوف تراودهم بشأن سؤال المرجعية، سيما بعد دستور 2011 الذي يكفل المساواة في الحقوق والحريات بين الرجل والمرأة، ويُقر بسموّ المرجعيات الدولية (حقوق الإنسان، اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة...) على المرجعية الوطنية، وزادت تنحية المجلس العلمي الأعلى (العلماء) من الحضور طرفا رئيسيا في هندسة الإصلاح مقابل الحضور القوي لوزير العدل، عبد اللطيف وهبي، المعروف بمناصرته الطروحات الحداثية تلك الشكوك رجحانا.
أيا تكن مساعي الثلاثي المشرف على المراجعة لرفع سقف التحديث في قانون الأسرة المقبل، فلن تتعدّى مسائل خلافية (إثبات النسب، زواج القاصرات، الحضانة...)، كانت دوما محلّ رأي واجتهاد فقهي بناء على تقدير المصلحة، من دون أن يلحق قضايا تؤطرها نصوص قطعية (المساواة في الإرث، إباحة زواج المسلمة من غير المسلم...) لأن في ذلك تعارضا مع مؤسّسة إمارة المؤمنين التي يصدُر عنها القانون، ومع التزام صريح ما فتئ الملك محمد السادس يكرّره في كل مناسبة، جديدها أخيرا في خطاب العرش، حيث دعا إلى إصلاح مدوّنة الأسرة بقوله "وبصفتي أمير المؤمنين، وكما قلت في خطاب تقديم المدوّنة أمام البرلمان، فإنني لن أحلّ ما حرّم الله، ولن أحرّم ما أحلّ الله، لا سيما في المسائل التي تؤطّرها نصوص قرآنية قطعية".
تحديث نصوص مدوّنة الأسرة رغبة تحدو المغاربة قاطبة، ما دام الهدف تحقيق العدل والإنصاف لكل مكوّنات الأسرة المغربية، لا مناصرة طرف (المرأة) على آخر (الرجل)، وكأنهما في حرب حامية، وليسا في رابطة زواج غايتها المودّة والرحمة والإخلاص. حقيقة مجتمعية ساطعة تعامت عنها أصوات كثيرين رأت في هذه المراجعة فرصة لإثارة قضايا تهدّد الدولة قبل المجتمع.
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.