أي حكومة سياسية على أرض تونسية موبوءة؟

10 يوليو 2021

ممرضة تونسية تعتني بمرضى كوفيد في صالة رياضية في القيروان (4/7/2021/فرانس برس)

+ الخط -

جديد الأزمة السياسية في تونس دعوة مجلس شورى حركة النهضة في دورته الخمسين، يومي 3 و4 يوليو/ تموز الجاري، إلى تكوين حكومة سياسية قوية، تكون قادرة على مواجهة التحديات والقضايا في المرحلتين الراهنة والمقبلة، وتتحمل مسؤوليتها أمام الشعب. واعتبر خيار "النهضة" هذا توجّها جديدا منها لتغيير المعادلة السياسية التي اتّسمت بتأبيد أزمة حادّة، راوحت مكانها منذ يناير/ كانون الثاني الماضي، على أثر أزمة التعديل الوزاري واندلاع معركة تنازع الصلاحيات بين رئيس الجمهورية قيس سعيّد ورئيس الحكومة هشام المشيشي ورئيس البرلمان راشد الغنوشي، في أزمة بات حلها رهين صراع كسر العظام، وتفاقمت تداعياتها القاسية، وليس أقلها ما تردّت فيه البلاد من انتشار وباء كورونا، والذي كان سببا في توجيه الاتهامات من التونسيين إلى الرئاسات الثلاث، بسبب تشتت جهود الدولة وضعف أجهزتها ومؤسساتها وغياب السياسيات والإجراءات الفعالة في مكافحة انتشار الوباء، في ظل تواصل الانسداد وفشل كل مبادرات الحوار والوساطات، وأهمها مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل، من أجل قيام حوار وطني يشرف عليه رئيس الدولة، يكون متعدّد الأبعاد، كان الأمل منه أن يُفضي إلى مخرجات اقتصادية واجتماعية، وحتى سياسية، تؤسّس لأمن اقتصادي واجتماعي، وتعيد للدولة هيبتها ومؤسّساتها، وتضمن للشعب المحبط الموبوء خبزه وحريته وكرامته، وقبل ذلك اللقاحات التي تحميه من الجائحة. وقد جاءت دعوة حركة النهضة إلى حكومة سياسية كذلك بعد أيام قليلة من لقاء استثنائي بين رئيس الحركة راشد الغنوشي ورئيس الجمهورية قيس سعيد يوم 24 من الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، تم الترتيب له بوساطة من القيادي السابق في الحركة لطفي زيتون.

وعلى الرغم من تكتم الطرفين على ما دار في اللقاء، فان تسريبات جادّة أكّدت أن سعيد اقترح على الغنوشي خريطة طريق واحدة للخروج من الأزمة، أهم شروطها تنصيب حكومة جديدة خلال ثلاثة أشهر أو ستة، على أن تكون حكومةً سياسيةً، يقودها الحزب الأغلبي، ويتحمل خيباتها قبل نجاحاتها، مع قبول وزراء التعديل الوزاري لأداء اليمين شرط استبدال الوزراء الأربعة محل الشبهة بآخرين مسيسين يتم تعيينهم مباشرة، من دون المرور بالبرلمان. ولكن قيس سعيّد نكث بما صرح به في هذا اللقاء ليعلن بعد يومين أنه غير معني بالوساطة والوسطاء، وذلك على أثر إطلاق سراح زعيم حزب قلب تونس نبيل القروي من السجن، وأنه لا يقبل بغير رحيل هشام المشيشي وحكومته برمتها شرطا أساسيا لكل حوار أو تسوية سياسية.

حركة النهضة، وإن بدت متمسّكة مبدئيا بالمشيشي، فهي في الواقع تدفع في هذا الخيار، مضطرّة

والملاحظ أن بيان محلس شورى حركة النهضة لم يُشر صراحة، في بنده السابع، إلى اشتراط بقاء المشيشي لقيادة الحكومة السياسية الجديدة التي دعا إليها، ولكن ما رشح من أخبار من داخل نقاشات المجلس، يؤكد وجود ثلاثة اتجاهات لهذا النقاش، يذهب أولها إلى التضحية بالمشيشي إعلانا لحسن النيات من أجل ترضية رئيس الجمهورية، وضمانا لمشاركة المساندين له، وخصوصا حركة الشعب والتيار الديمقراطي الداعمين لما ظل يطلق عليه "حكومة الرئيس". وذهب شقٌّ ثان داخل "شورى النهضة" إلى توجيه رسائل تحذير للمشيشي، حتى لا يعيد إنتاج منوال رئيس الحكومة الأسبق، يوسف الشاهد، الذي "انقلب" على الراحل الباجي قايد السبسي وحزبه نداء تونس، ناسجا مشروعه السياسي انطلاقا من موقع الحكم وما يوفره من وجاهة وإمكانات، وهو ما تم فعلا عبر تأسيسه حزب تحيا تونس، الذي رشّحه لرئاسيات 2019، وكانت قناعات الشاهد بأنه سيفوز.

ويبقى الشق الأوسع والأقوى داخل مجلس شورى حركة النهضة، والذي يتزعمه رئيس المجلس عبد الكريم الهاروني، ويلتقي فيه معه رئيس الحركة راشد الغنوشي وفاعلون آخرون، عبر موقف موحد يذهب إلى التمسّك بهشام المشيشي لتشكيل الحكومة السياسية الجديدة، تحسينا لشروط التفاوض مع رئيس الجمهورية ومسانديه بشأن الحكومة المزمع تكوينها، وخوفا من أن يبادر المشيشي بالاستقالة، وهي الورقة الأقوى بين يديه، ما يعيد مبادرة تسمية رئيس الحكومة الجديد إلى قيس سعيّد، وهذا أمر تخشاه "النهضة"، وقد يتسبب في خروجها من الحكم، خصوصا بعد تداعيات رئاسة زعيمها للبرلمان، وما تردّت فيه المؤسسة التشريعية من عنف وتجاذبات عكست صورة سيئة لم تعد مقبولة من الجميع.

فاقمت التداعيات القاسية للأزمة السياسية، ليس أقلها ما تردّت فيه البلاد من انتشار وباء كورونا، الذي كان سبباً في توجيه التونسيين الاتهامات إلى الرئاسات الثلاث

ولكن حركة النهضة، وإن بدت متمسّكة مبدئيا بالمشيشي، من خلال هذا الموقف الذي يسوّق لبقائه على رأس الحكومة السياسية الجديدة، فهي في الواقع تدفع في هذا الخيار، مضطرّة، لأنها لا تستطيع منفردة بعدد نوابها الـ53 في البرلمان سحب الثقة من الحكومة الحالية، ولا تستطيع تعيين حكومة محلها، إذ ينص الفصل 97 من الدستور على أنه "يشترط لسحب الثقة من الحكومة موافقة الأغلبية المطلقة من أعضاء المجلس، وتقديم مرشّح بديل لرئيس الحكومة، يصادق على ترشيحه في نفس التصويت، ويتم تكليفه من قبل رئيس الجمهورية". وإذا افترضنا أن "ائتلاف الكرامة"، الكتلة المساندة لحركة النهضة دوما، ستساند هذا التوجه، فإن ذلك لن يوفر لها في أحسن الأحوال إلا 18 صوتا، وهو ما لا يمكن معه تغيير الوضع. ويبقى للحركة في هذا المجال تحالف نواب حزب قلب تونس معها (29 صوتا)، الذي أعلن صراحة تمسّكه بهشام المشيشي في كل الأحوال على رأس الحكومة الحالية، أو المزمع تكوينها، في إشارة لم تخف على الملاحظين (أو المراقبين) للسير في الاتجاه المعاكس لقيس سعيّد الذي يظل متمسّكا برحيل المشيشي وحكومته، رافضا التسوية أو الحوار مع "النهضة" أو غيرها من دون هذا الشرط. وكان سعيّد قد غير رأيه بشأن الحوار الذي اقترحه أمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي، بعدما أعلن موافقته مباشرة، بعد إخلاء سبيل رئيس "قلب تونس" نبيل القروي من السجن، ما زاد في تعكير الأجواء بين سعيّد و"قلب تونس" الذي لن يقبل، بأي صورة، اليوم تقديم رأس المشيشي قربانا على طبقٍ لسعيّد.

وبالعودة إلى بقية الأحزاب والكتل الأخرى التي تشكّل الحزام السياسي للحكومة الحالية، حركة تحيا تونس وكتلة الإصلاح وشق من المستقلين، علاوة على "النهضة" و"قلب تونس"، فإن موقفها ظل مشروطا بأن تظل الحكومة الحالية حكومة كفاءات مستقلة، لا سياسية ولا حزبية. ويُستبعد أن تغير هذه الأحزاب رأيها في انحياز على بياض لحركة النهضة التي يمكن أن تضحّي بالمشيشي من أجل إذابة الجليد مع سعيّد. كما يبدو مستبعدا جدا أن يتم أي تقارب ممكن بين الحزبين الداعمين لرئيس الجمهورية، حركة الشعب والتيار الديمقراطي من جهة، والنهضة من جهة أخرى، وقد ظل موقفهما ثابتا داعيا إلى رحيل المشيشي وحكومته تناغما مع موقف الرئيس. كما أنه يستعبد جدا أن يساند أخرى لتشكيل حكومة سياسية جديدة، تظل "النهضة" تمارس الحكم من خلالها، وقد يتغيّر هذا الموقف إذا غير سعيّد موقفه، فمضى في طريق التوافق، نسجا على ما تم سنة 2013 بين الباجي والغنوشي، وذلك فكّا لعزلته، وخوفا من فقدان المخزون الانتخابي (500 ألف صوت)، الذي قدّمته له "النهضة" في انتخابات 2019.

قد يظل مشروع الحكومة السياسية إحدى المحطات المنتظرة، بعد أن تخرج البلاد من محنتها الصحية القاسية

على صعيد الواقع، انطلقت بعد مشاورات لتشكيل حكومة سياسية بقيادة المشيشي من "النهضة"، رشحت معطيات بأن "قلب تونس" طرف فيها، إلى جانب كتلة الإصلاح وائتلاف الكرامة، وبعض المستقلين. وقال رئيس مجلس شورى حركة النهضة عبد الكريم الهاروني إن مشاورات قريبة قادمة مع رئيس الجمهورية في هذا الشأن، مشدّدا على ضرورة إنهاء كل الصراعات والخلافات التي تعطل البرلمان وترذله، معتبرا أن الحكومة السياسية الجديدة ستساهم في تمرير القوانين بقوة، وتحسين الوضع السياسي والاجتماعي، وتكون مسؤولة عن خياراتها. أما الشارع، فإن مزاجه بدا بعيدا عن كل مشاورات ومحادثات وسجالات سياسية، همه فقط وضعه الاقتصادي والاجتماعي، وتوفير ما يمكَنه من النجاة من جائحة كورونا ومشتقاتها التي انتشرت في كل الجهات، وزرعت الهلع والرعب في القلوب والبيوت.

مشروع الحكومة السياسية، إذن، وحسب استقراء للواقع وللخريطة السياسية في تونس، لن يكون غدا أو بعد غد، ولكن قد يظل إحدى المحطات السياسية المنتظرة، بعد أن تخرج البلاد من محنتها الصحية القاسية، ويمكن عندها الحديث عن حكومة جديدة.

35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي