أيّتها الخِفَّة .. أين أنتِ؟
في روايته الشَّهيرة، "خِفَّةُ الكائن غير المحتملة" (1982)، يتكّئ الكاتبُ التشيكي، ميلان كونديرا، على فكرة "العَوْد الأبديّ"، ليتناول فكرة مناقِضة هي الخِفّة. فبحسب الأولى، كلّ ما هو موجود يعود ويتكرّر بشكلٍ أزليّ، وهو ما تقول به فلسفةُ الحتميّة المسبقة، حيث الحياة البشريّة تكرارٌ لانهائيّ للأحداث نفسها من دون أن يطرأ عليها أيُّ تحوّل أو تطوّر أو تغير، وهو ما يجعلُ الوجودَ ثقيلاً، جامداً، ويُكسِبُ الأشياءَ معنًى ثابتاً أزلياً، ينفي عنها صفةَ الزّوال أو انعدم القيمة. ينطلق كونديرا من فرضية أنّ العَوْد الأبديّ مستحيل، وهو ما يؤدّي إلى معاناة البشرية من غيابٍ مُطلَقٍ لكلّ حمولة أو ثِقَل، ويجعل الإنسانَ خفيفًا جدا، فاقدًا كلّ وزن، لكلّ معنى. فما لا يعود بشكلٍ أزليّ ولا يتكرّر، يُصبح عابرًا وزائلا في مقابل استمرارية الحياة وأزليّة الوجود، وهذا ما يُصَيّر خِفّةَ الكائن غير محتملة، "الحياة التي تضمحلّ بشكل نهائيّ ولا تعود، لا يكون لها وزنٌ، وهي بهذا غير ذات معنى، سواء كانت رهيبة، جميلة أو رائعة". هباءُ الحياة هذا يُفقد كلَّ سلوكٍ وكلَّ قرارٍ، كلَّ وزنٍ وكلَّ معنى، وهو بالضبط ما يجعلُ حياتـَنا لا تُحتمَل، فما تُرانا سنختار في النهاية: الخفّة ومحدوديّة الحياة وهشاشتها، أم الثِقَل وأزليّة الوجود التي تفترض احترام القوانين والالتزام بالواجب الأخلاقي؟
يُخبرنا كونديرا في هذا الصدد أنّ هذا السؤال كان قد طرحه سابقًا الفلاسفة الإغريق، ومن أهمهم بارمِنيدس الذي كان يرى إلى الوجود منقسماً إلى ثنائيات متناقضة، إيجابية وسلبية: الضوء/ الظلمة، الوجود/ العدم، الخفّة / الثقل، إلخ. وبحسب الأخير، الخفّة إيجابية، في حين يؤكّد كونديرا التباسَها، لأنها الاثنان معاً، أي أنّها إيجابية بما هي حرّية (تعدّد العلاقات العاطفية)، وسلبية بما هي فراغ (الحياة من دون ارتباط). ولذا، الحياة مفارقة أو أنها معضلة غير قابلة للحلّ، وهو ما تجسّده الشخصيات الرئيسة الأربع الموزّعة بين الثقل والخفّة، إذ يرى كونديرا أنّ الأفراد أحرار بخياراتهم، وأنّ القَدَرَ المحتوم ليس أكثر من وَهْم.
لكن، هل هناك حقاً خفّة من دون حداثة؟ سؤال يُسأل اليوم، وهو سيصبح أكثر حدّة ووزنا عندما يُطرَح انطلاقاً من هذه الرقعة من العَالَم، فإنّ ناظراً إلينا من كوكبٍ بعيدٍ على سبيل الافتراض، لا بدّ أن ينزع إلى اعتبار مأساتنا الحقيقيّة، نحن العرب، كامنةً في اختفاء "الخفّة" من حيواتنا، الخفّة بمعناها الحداثيّ، الفلسفيّ، تلك التي يقول عنها الفيلسوفُ وعالمُ الاجتماع الفرنسيّ، جيل ليبوفتسكي، إنّها "عامِلٌ مهمٌّ في تعزيز ديمقراطيّاتنا، وفي نزوع مجتمعاتنا نحو الفرديّة" أو تلك التي رأى نيتشه أنّها ليست هروباً من الثِقَل، بقدر ما هي جرأة وجسارة.
ولستُ أدري إن كان يصحّ القولُ إنّ لبنان كان مجسِّداً ربما لما يشبه تلك الخفّة. ثقافة وبداية انعتاق من القديم وانفتاح على الجديد، شيء من فوضى خلاقة مع سياسةٍ على علاتها الكثيرة، تتيح هامشَ تفلّتٍ ولا تَقْمَع. أفكارٌ كبيرة ورغدُ عيشٍ وجغرافيا متواطئة "نساء وفواكه وآراء" على ما ذهب إليه الروائيّ حسن داوود في اختيار عنوان روايته التي أصدرها أخيراً (دار نوفل)، والتي تتناول في جزءٍ منها النصفَ الأوّلَ من السبعينيات، حيث مجموعة من طلاب كلية التربية ينسجون بأفكارهم وأحلامهم قماشةَ المستقبل، وذلك في الزمن الجميل، أي قبل أن تأتي الحربُ لتمزّق كلَّ شيء، ولتُثقِلَ البلدَ الصَّغيرَ بأوزانٍ هائلة لا قدرة له على حملها.
نقصُ الخِفَّة اليوم في منطقتنا علّة، إنّه مشابهٌ لمرض "نقص المناعة" إذ يُبيح رواج أمراضٍ ويُشرّع أوبئةً وينشر جراثيمَ فتّاكة تسمّم عقولَنا وقد تودي نهائياً بها.