أول امرأة رأتنا
نما في داخلي إحساس احترام وتبجيل منبعه أن تلك المرأة تقوم بمهمة خارقة، جذب ذلك الكائن من عالم غامض إلى عالمنا، ولم يتخلّل هذا الإحساس أي تغيير، حتى أصبحت من مدمني الأفلام العربية القديمة، وتابعت أفلاماً أظهرت تلك المرأة بمظهر المتآمرة والشريرة فصرت أتوجس خيفة من مهنتها المتوارثة غالباً، فهي تحمل حقيبة جلدية سوداء مهترئة، وتأتي إلى البيت مثل سوبرمان، لكي تنفرد بامرأة أخرى تصيح في ألم، فيما يدور زوجها مثل أسد جائع في قفصٍ لا يدري كيف يتصرّف، فتزجره صائحة بأن يُخلي لها المكان، وأن يذهب لتسخين قدر كبير من الماء، ويأتي بأم المرأة الشابّة في أسرع وقت.
والحقيقة أنك تحفظ هذه الخطوات جيداً، وغالباً ما تصل القابلة التي نطلق عليها اسم "الداية" مع الأم أو بعدها، فتجد الأم تجفّف عرقاً وهمياً أو حقيقياً من فوق جبين ابنتها التي لا تتوقف عن الصراخ، وذلك دليل على قلة حيلتها، لكن ذلك لا يمنع أن تتجاذب أطراف الحديث والمشورة، وتستعيد الذكريات مع القابلة العجوز التي رأت تلك الشابة الموشكة على الوضع أول مرّة. وهكذا تكتشف أن تلك المرأة ولدت على يديها أعدادٌ لا تحصى من الأطفال الذين كبروا وأصبحوا آباء وأمهات، ليصل دور الأمهات منهم لكي ينمن على ظهورهن، ويطلبن منها المساعدة في إخراج واحد من تلك الكائنات الصغيرة إلى الحياة.
تراجع في السينما والدراما دور القابلة الخيّرة، لنرى القابلة الشرّيرة التي تتآمر وتتحالف مع الشر وتعقد اتفاقاتٍ مقابل المال أو الذهب، للتخلص من جنين صرخ صرخته الأولى في الحياة أو لم يكد أو ربما تقوم بجريمة أكبر مثل تبديل الأطفال أو خطفهم وادّعاء موت المولود، وأنها ستتكفّل لجهل عائلته وجزعها بمواراته في التراب حسب معرفتها ودرايتها. وهكذا كانت للقابلة صولات وجولات في صراع الطمع الإنساني والحرص على الميراث والثروة. لكن دائماً ما ينتصر الخير وتظهر الحقيقة حتى بعد مرور سنوات كثيرة، ما جعلني أتمنّى أن ينتهي دور القابلة، والتي رأينا دوراُ محبّباً لها في واحدٍ من أشهر مسلسلات الدراما السورية "باب الحارة"، فكانت "الداية أم زكي" لها كلمتها واحترامها ودورها في حل مشكلات النساء مع أزواجهن وتقديم الوصفات الشعبية وتزويج البنات، خصوصا ممن يوشك قطار الزواج على أن يتخطّاهن.
ويجدر بنا قبل أن نتابع السينما والدراما، ونسمع قصص الجدّات عن القابلات الشهيرات في قراهن ونوادرهن ومهاراتهن، فعلينا أن نعرف أن هناك يوما عالميا للقبالة، بدأ الاحتفال به في الخامس من مايو/ أيار عام 1991. وقد خرجت الفكرة من مؤتمر الاتحاد العالمي للقابلات عام 1987 في هولندا، ومع تنامي هذه المهنة التي تعد من أقدم المهن في تاريخ البشرية تنامى الحرص على تقدير دور القابلة، خصوصا أن القابلات قد قدّمن مفاهيم جديدة لهذه المهنة، تتجاوز سحب الجنين من رحم أمه أو حتى استقباله فقط، فيما تخوض الأم معركتها وحيدة، وهي تجلس إلى كرسي خاص مفتوح من الوسط.
وكانت الأم قبل ذلك تذهب إلى مكان بعيد عن القبيلة لكي تلد وحيدة، وهي في وضعية السجود، وتعود مع وليدها أو لا تعود، حتى تطور دور القابلة، فأصبح اسمها قابلة قانونية، تقديراً لها، وإشارة لخضوعها لتدريبات علميةٍ لرعاية الأم والمولود، بل دعوة الزوج إلى غرف الولادة، لكي يشعر بمعاناة شريكة حياته، لحثّه على رعايتها بنصائح طبية ثمينة، لكنّ ذلك لا ينفي أنّ المرأة البسيطة التي رأتنا قبل أمهاتنا كانت بقدرات خاصة، تترنم وتتمتم وتدعو بكلماتٍ سرّيةٍ خافتةٍ تقسم معظم الأمهات بأنّ ذلك سرّ تيسر الولادة وليس قدر الماء الساخن متلازمة الأفلام العربية القديمة أيضاً، والذي كنا نعتقد أنه بلا جدوى، حتى تبيّن أنّ القابلة أدركت بفطرتها فائدته العلمية في تسهيل خروج الجنين قبل أن يفعل العلم ذلك بكثير.