أوكرانيا .. لزوم ما لا يلزم
"تبدأ الحرب في مكان ما، هنا أو هناك، غير أنها تمتد تماما مثل بقعة زيت على بساط من قماش الكتّان، وتتقدّم، تتقدّم أكثر حتى تقترب من مدينتك، من الحي الذي تقيم فيه، إلى أن تصل إلى باب منزلك، حينها سوف تصدّق أنها الحرب"، يمكن أن يكون رئيس أوكرانيا، فولوديمير زيلينسكي، قد تذكّر هذه "الثيمة" التي أطلقها الأرجنتيني سيرجيو هارتمان على لسان بطل قصته اللافتة "يوم من ضمن أيام أخرى"، بعدما كان تجاهل دقات الطبول زمناً إلى أن حطّت الحرب عند باب منزله في "يوم أسود"، بوصف المستشار الألماني أولاف شولتز. عندها أدرك أن القيصر قد فعلها، ولذا قرّر أن يقاتل، ارتدى بزّة استعراضية لم يلبس مثلها سوى في السينما يوم كان ممثلا كوميدياً، جرّب أن يستنجد بحلفائه السبعة والعشرين زعيماً أوروبياً "من مستعدٌّ للقتال معنا؟"، لكنّ أيّاً منهم لم يردّ سوى بعبارات تعاطف ومواساة، والبيت الأبيض نفسه أكّد أن "بلادنا لن تدخل في حربٍ مع روسيا، ولن تذهب قواتنا لمواجهة عسكرية في أوكرانيا"، أسقط في يد زيلينسكي: "تركونا وحدنا ليشاهدوا الحرب على الشاشة". في تلك اللحظة التاريخية الفارقة، اكتشف أنّ "البيت الأبيض" لن ينفع في اليوم الأسود، وألغى متابعة تغريدات الرؤساء على "تويتر" احتجاجاً!
صحيحٌ أنّ زيلينسكي كان يخاف روسيا، ولا يثق بها، ويدرك أنّها قادمة يوماً ما لابتلاع بلاده، لكنّه لم يكن ليتصوّر أنّ خطوتها هذه سوف تتم بهذه السرعة. وكان وضع في حسابه الانضمام، عاجلاً أو آجلاً، لحلف الناتو الذي سيتكفّل بحمايته، لكنّه يشعر اليوم بالخذلان، ويريد إعادة النظر في حساباته، لكنّ وقائع الأيام الأخيرة تعلمه أنّ الوقت قد فات.
اكتشف الرئيس الأوكراني أنّ "البيت الأبيض" لن ينفع في اليوم الأسود، وألغى متابعة تغريدات الرؤساء على "تويتر" احتجاجاً!
في موسكو، على الجانب الآخر، كان القيصر يعرف جيداً أسرار اللعبة التي تمتلك جاذبيتها عليه، له خبرته العريضة فيها ابتداءً من المخابرات إلى السياسة إلى الرئاسة، عرف القانون والاقتصاد، وعرف أكثر لعبة الحرب. اختبرها في الشيشان وجورجيا، وبرع فيها عندما ضمّ شبه جزيرة القرم، وانطلق يؤسّس عملياً رهانه الاستراتيجي على إحياء دور روسيا في قيادة العالم، كما كان الاتحاد السوفييتي السابق. وقد رسم مساراً يتيح له تحقيق هدفه في الحصول على مدى جيوسياسي أوسع في أوروبا والعالم، ونجح في وضع أقدامه في "المياه الدافئة"، عبر تموضعه في سورية، ثم أمسك باللعبة في يده، طارحاً على الغرب شروطَه في طلب ضماناتٍ بمنع امتداد حلف الناتو شرقا، وعدم انضمام أوكرانيا، أو أيٍّ من الجمهوريات السابقة إلى الحلف، ومتوجّها، هذه المرّة، نحو كييف عاصمة أوكرانيا، منظّرا لما أسماها "تاريخية أوكرانيا الروسية"، ناظرا إليها أنها "دولة مصطنعة"، وأنّ ضرورات الأمن القومي لبلاده تفرض إلحاقها بروسيا أو على الأقل تنصيب حكومة موالية له فيها، وهو، في خطوته الماثلة، أعدّ كلّ الاشتراطات التي تخدمه، خصوصاً أنّ إمكانات أوكرانيا العسكرية لا يمكن أن تضاهي مثيلتها الروسية، وقد لا تصل إلى ثلث إمكاناتها، بعدما تخلت طواعيةً عن قدراتها النووية التي ربما شكلت، لو كانت باقية، عامل لجم لروسيا أو لغيرها، فضلاً عن قناعته المستجدّة بأنّ الغرب، وأميركا بالذات، لن يغامر في الدخول في مواجهةٍ عسكريةٍ مباشرة. ولعلّ هذه المعطيات تبلورت في ذهنه، حتى دفعته إلى الانخراط في مغامرته بدقة وتصميم، مظهراً عزمه على المضي بها إلى نهاية الشوط، ومتمثلاً مقولة الفيلسوف البريطاني، برتراند رسل: "إنّ أيّة حرب لا تحدّد من هو صاحب الحق فيها، لكنّها تحدّد الطرف الذي يبقى إلى النهاية"، وهو اليوم يرفع صوته عالياً إلى درجة تلويحه بتفعيل أسلحة الردع النووي ضد خصومه، فيما يبدو غريمه الرئيس الأوكراني مرتبكاً وغير قادر على تحديد أولوياته، خصوصاً بعدما صدمه الأميركيون والأوروبيون في عدم دخولهم الحرب، والاكتفاء بمدّه بحزمة مساعدات عسكرية، إلى جانب معاقبة روسيا اقتصادياً ومالياً، وقد قبل أن ينزل إلى حلبة التفاوض بأمل أن يجنب شعبه المزيد من إراقة الدم.
بقي أن نعرف أنّ كلّ هذه التداعيات تعكس في طياتها واحدةً من معضلات النظام الدولي الماثل الذي تبقى فيه القوة المعيار الأساس في حلّ المشكلات. وفي ظل هذا المعيار غير العادل، لا تملك الدول الصغيرة سوى خيار الإذعان لما يقرّره الأقوياء لها، مع التسليم باحتمال ظهور معطياتٍ غير محسوبة، قد ترغم المشاركين في اللعبة على لزوم ما لا يلزمهم.