أن ينخرط لبنان في المعركة
انخرطت الجبهة الجنوبية للبنان مع فلسطين المحتلة في معركة طوفان الأقصى منذ اليوم الثاني لانطلاق شرارة المعركة في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، حيث هاجم حزب الله مواقع الاحتلال الإسرائيلي في مزارع شبعا المحتلة. ومنذ ذلك اليوم، المواجهات على هذه الجبهة آخذة بالتصاعد والتوسّع والتمدّد، حتى شملت كلّ الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة من الناقورة على شاطئ البحر إلى قمم جبل الشيخ في شرق الجنوب. وانخرطت في هذه المعركة فصائل أخرى فلسطينية، مثل حركتي حماس والجهاد الإسلامي اللتين أعلنتا بشكل منفرد لأول مرّة عن عمليات تسلّل من الأراضي اللبنانية إلى داخل فلسطين، وعن عمليات قصف بالصواريخ من داخل لبنان على مواقع ومستوطنات للاحتلال. كما أعلنت فصائل لبنانية عن انخراطها في هذه المواجهات أول مرّة كـ "قوات الفجر" التابعة للجماعة الإسلامية.
تحوّلت معركة طوفان الأقصى والعدوان الإسرائيلي الواسع والمتواصل الذي يستهدف المدنيين الفلسطينيين بشكل أساسي بغرض تفريغ قطاع غزّة من سكّانه، كما بات واضحاً، كجزء من مشروع إعادة تشكيل المنطقة وفق المنطق والمشروع الأميركي، وهو ما أكّد أنّ المعركة أو العدوان على غزّة بداية حرب إقليمية تستهدف المنطقة كلّها وليس غزّة فقط.
وأمام مشهد الحرب الإقليمية هذه، لم تكن الجبهة الجنوبية الوحيدة التي تحرّكت على وقع الحرب والعدوان على غزّة، فهناك جبهات ومناطق أخرى بدأت أيضاً تنخرط بشكل متدرّج في هذه الحرب وبأشكال مختلفة ومتعدّدة، فإيران التي تتزّعم محور المقاومة بدأت تنخرط بشكل متصاعد في هذه الحرب، من خلال السماح لحلفائها باستهداف المواقع الأميركية والإسرائيلية في المنطقة، وما جرى في العراق وسورية من استهداف أكثر من 15 مرّة المواقع الأميركية دليل على هذا الانخراط.
وأطلق أنصار الله في اليمن (الحوثيون) صواريخ بالستية ومسيّرات نحو "إسرائيل" اعترضتها مدمّرة أميركية في شمال البحر الأحمر، وهذا يؤكّد أنّ انخراط هذا المحور في الحرب آخذ بالتصاعد والتوسّع بموازاة توسّع العدوان على غزّة.
من المصلحة الوطنية اللبنانية العليا أن يكون لبنان حاضراً في الحرب ضد إسرائيل من أجل الحفاظ على مصالحه أولاً، وكجزء من واجبه العربي الإنساني بالوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني
ومصر التي تقع في جوار غزّة وتخشى على أمنها القومي من تهجير سكّان القطاع إلى سيناء انخرطت في هذه الحرب، ولكن بشكل مختلف عبّرت عنه، من خلال الموقف السياسي الرافض للعدوان وتهجير الفلسطينيين، والداعي إلى وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات الإنسانية، في وقت بدأت تتعالى الأصوات في القاهرة بدعوة الجيش المصري إلى الردّ على جرائم الاحتلال الإسرائيلي، خصوصا بعد استهداف برج للمراقبة للجيش المصري عند معبر رفح أصيب فيه عدد من الجنود. والأمر ذاته بالنسبة للأردن الذي انخرط في هذه الحرب من زاوية سياسية ترفض تهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية نحوه، وهو يطالب أيضاً بوقف النار وإرساء الحلّ السياسي.
وبالنظر إلى أنّ هذه الحرب باتت إقليمية، ستقرّر نتيجتها مستقبل المنطقة ودور الدول ومصالحها فيها. وبهذا الاعتبار، لا يمكن للبنان أن يبقى على الحياد فيها، ولا أن يدسّ رأسه بالتراب على قاعدة أنّه لا يرى ما يجري ولا دخل له فيه. لبنان معنيٌّ بهذه الحرب وبنتيجتها، إن لناحية مستقبل اللجوء الفلسطيني فيه، حيث تعمل "إسرائيل" على تصفية قضية اللاجئين، وتالياً توطينهم في أماكن وجودهم، وهذا ما يعني أنّ فوزها في هذه المعركة، فيما لو حصل، سيوطّن الفلسطينيين في لبنان ولو بالقوة، وهذا يتعارض مع مصالح لبنان. ثمّ في الجانب الاقتصادي وبعد ترسيم الحدود البحرية للبنان، استفردت "إسرائيل" باستخراج النفط والغاز من البحر، وتمنع بأشكال متعدّدة لبنان من الإفادة من ذلك. وبالتالي، ستفرض أي هيمنة لها على المنطقة مزيدا من الشروط على لبنان في الثروة النفطية والغازية. وبالتالي، خسارة لبنان هذه الثروة. فضلاً عن ذلك، فإنّ استقرار المنطقة لصالح "إسرائيل" سيعني أنّها ستنافس لبنان في موضوع النقل البحري والبرّي والجوي وتجارة الترانزيت، وهو ما سيُلحق أضراراً بالغة بالاقتصاد اللبناني، هذا فضلاً عن مسألة السياحة لو جرى تطبيع العلاقات بينها وبين بقية دول الجوار.
لكلّ هذه الاعتبارات، مصلحة لبنان المتحقّقة هي في عدم الحياد في هذه الحرب، لأنّ الحياد سيضرّ بمصلحة لبنان على الأكيد. وإذا حرص هو على الحياد، فإنّ "إسرائيل" لا يعنيها ذلك، ولعلّ التجربة مع مصر والأردن والسلطة الفلسطينية خير دليل على ذلك، حيث تعمل على الإضرار بهذه الدول، على الرغم من معاهدات التسوية و"السلام" معها. ولهذا كله، من المصلحة الوطنية اللبنانية العليا أن يكون لبنان حاضراً من أجل الحفاظ على مصالحه أولاً، وكجزء من واجبه العربي الإنساني بالوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني الشقيق ثانياً.