أمّهات إسرائيل
نقطة اللاعودة. هي ذلك الحدّ، الذي حين يُتَجَاوز، لا بدّ أن تنقلب الأوضاع، تتبدّل، لا تعود ما كانت عليه. في كلّ حرب، كانت هناك نقطةٌ لا عودة، إمّا بالمضي إلى الأمام، وصولاً إلى خواتيمها، أو إمعاناً في وحشيةٍ تجرف كما التسونامي الهادر كلّ شيء. نقطة اللاعودة هذه تنطلق كالحصاة متقافزةً على سطح بحيرة العالم، تُرجرج مياهها الراكدة، فيتحرّك الرأي العام العالمي أخيراً، يدرك ويستوعب، ويكوّن، أخيراً، انطباعه الخاص، متخلّصاً من تأثيرات البروباغاندا السياسية وأكاذيبها، التي تحوّل السواد بياضاً، والعكس بالعكس. والرأي العام، هذا، قد ينزل الشارع أحياناً، يتحرّك ويتظاهر ويطالب ويهاجم ويدعم... الرأي العام متى صحا، حرّك عجلة التاريخ دافعاً إيّاها ما استطاع في الاتجاه الصحيح.
كلّنا يذكُر صوراً وأحداثاً سكنت ضميرَ العالم ولا تزال، بعد أن هزّته وساءلته كما تفعل أعتى الزلازل؛ صورةُ ابنة التسع سنوات، التي عُرِفت بـ "طفلة النابلم"، التي خرجت عاريةً محترقةً وهي تركض هلعةً مولولة من الألم في أحد شوارع جنوب فيتنام، مع عدد من الجنود والأطفال؛ صورة الصيني، أو "رجل الدبّابة"، الذي وقف في وجه رتلٍ من الدبابات يناورها، ويمنع تقدّمها في ساحة تيان آن مين الشهيرة، حيث قمع الجيش بالسلاح الحيّ، قبل يوم، تظاهرات طلّابية أدّت إلى مقتل نحو عشرة آلاف ضحية؛ صورة الطفل المتهاوي جوعاً في جنوب السودان، ومن خلفه يقف نسرٌ ينتظر أن يلفظ رمقه الأخير لينقضّ عليه؛ صورة أطفال غاز السارين النيام في الغوطة، وصورة الطفل إيلان الذي ألقى الموج جسدَه الصغير على الشواطئ التركية، متكوّماً على نفسه بقميصه الأحمر وسرواله النيلي، فهبّت على العالم ريح عاتية اقتلعت ملايين الأفئدة وأدمتها... واليوم غزّة، واليوم فلسطين. صور الأطفال الضحايا، موتى وجرحى وأيتاماً تائهين وسط الدمار، وجوعى لا يجدون ما يُسكتون به جفاف أحشائهم، لا تني تتراكض تحت أعيننا على شاشات التلفزة وصفحات الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي. أطفال موتى بالآلاف، أعين مُغمضة على الرعب، أجساد صغيرة رخوة مفتّتة العظام، أطراف ترتجف وتتنتّع من الهول.
والسؤال: هل ترى أمّهات إسرائيل هذا؟ وإذا كنّ يرين، فأين هنّ؟ أجل، أين أنتُن يا أمّهات إسرائيل، أين هم الآباء؟ كيف تقدرِن على هذا كلّه؟ كيف تقدرن على تحمّل هذا الكمّ من القسوة، على هضم هذه الإبادة التي تنقلها الصورة من جميع الزوايا، تصوّرها بالتفصيل المُملّ، تقترب من الجرح وترينا اللحم المكشوط الحي، وتخثّر الدماء وموت الأنسجة والخلايا. حقّاً، أين أنتن يا أمّهات إسرائيل؟ ألستن في النهاية أمّهات؟ ألم تعرفن مخاض الولادة، آلام الوضع؟ ألم تتشمّمن رائحة وليدكن، تحتضننّه، تُغرقن وجوهكن في لحمه الطري البض؟ ألم تقسن حرارته، تخفن عليه، تدغدغنه، تهدهدنه، وتغنّين له؟ كيف إذن تحتملن هذا كلّه، كيف تُدرن وجوهكن وتدّعين أنكن لا ترين؟ هذا الذي يتشلّع أمامكم هو، أيضاً، طفل، مثل أطفالكن تماماً، من الصنف ذاته، لا فرق، أنتن تعلمن، فلماذا لا تتهافتن تحت قصف الطائرات وأمام الدبّابات لتحمين تلك الملائكة البريئة بأبدانكن، لتضممنهم إلى أحضانكن بعنف، بقوّة، وتخبرنهم ألا يخافوا بعد الآن، لأنكن معهم، حولهم، فوقهم، مثل السماء. أين هن أمّهات العالم كلّه، كيف لا يركبن سفناً ويتوجّهن آلافاً، اللحظة، إلى أرض الموت والخراب؟
مريم العذراء مات لها ابن وحيد، مريم فلسطين مات جميع أبناؤها على مقربة منها، ولم يتبقّ منهم جسد واحد مكتمل تضمّه لتبكيه. أولاد فلسطين يفقدون أمهاتهم وأباءهم ويُرمون في وحشة الدمار والعراء المحروق حيث لا شجر ولا حجر ولا ماء. الصورة بحجم بلاد. الصورة واضحة، نافرة، حاضرة منذ 75 عاماً، لكن العمى سيّد العيون. أجل، الجميع يعلم، فالصور لا تُحصى، والصور التي تحكي قسوة العالم وهشاشة ما بنيناه وتفاخرنا به من إنجازات حضارية وإنسانية، تتراكم وتتوالى تحت أنظارنا بسرعة الضوء.