الرزنامة
كنت، منذ صغري، أظنّ أن الزمن الحقيقي، الزمن الدسم السميك طاغي الحضور، يقيم داخل تلك الرزمة الورقية السميكة، بحجم كفّ اليد، فيها أحرف وأرقام، تحملها "كرتونة" مستطيلة ذات زينة أو صور أو رسوم، وفي أعلاها شريط يتيح تعليقها في مسمار على الحائط، نطلّ عليها مع بداية كلّ نهار لننزع عتيقَها ويظهر جديدُها. أمامها، كنت أقف كمن يُطلّ على نافذة تُدعى الوقت، وأشعر إذ تنتزع كلُّ أوراقها، أنها أشبه بشجرة تعرّت، وإن كانت ستعود لتخضرَّ وتينع من جديد.
كان الزمن يقيم في الرزنامة إذاً، لا في الساعات التي كنت أراها على خفّة وميوعة لا تعدو مهمّتُها تذكيرَنا بتعاقب الليل والنهار، وبضرورة الإتيان بأفعال روتينية مُكرّرة كالاستيقاظ وتناول طعام الغداء وميعاد المبيت، ثمّ الاستيقاظ من جديد، بينما يدلّ تبدّل الأوراق على الفصول والأعياد وتواريخ أحداث مهمّة هزّت العالم، فغيّرت مصائر البشر بقدر ما أثّرت في سيرورة دول وبلدان. سماكة الرزنامة كانت دليلي إلى ما ينتظرني من أفراح واحتفالات أو من جهد وجدّ، وما أن تنتصف تقريباً، حتى أحسب أننا بتنا على أعتاب الانعتاق والذهاب إلى الجبل في عطلة الصيف الملأى بالنزهات والأفلام، في حين تُنبئنا وريقتها الأولى بانقضاء فترة الأعياد، وضرورة البدء بتدوين سنة جديدة مع ابتداء كلّ يوم مدرسي.
كثرٌ كانوا يدقّون أبوابنا منذ ديسمبر/ كانون الأول عارضين بضاعتهم، لكنّ الأعداد كانت تتزايد بشكل ملحوظ في بداية يناير/ كانون الثاني، إذ يُدرك بائعو الزمن الجوّالون أنّ ثمّة من لم يتحسّبوا لاستقبال العام الجديد، وأن أمزجة هؤلاء تكون في أفضل أحوالها بسبب سَكرة الأعياد ودوار شراء الهدايا وتلقّيها من أجل إسعاد الأحبّاء، مراهنين على استمرار سريان مفعول فرح الأعياد. حتى في أيّام الحرب وما تلاها، دامت عادة توزيع الرزنامات من باب إلى باب، ثمّ تحوّلت إلى ما يشبه ذريعةً للتسوّل أو الاسترزاق، إذ يجيب عارضها للبيع حينما يُسأل عن سعرها: "أنت كريم ونحن نستاهل"، أو "ادفع ما تريد نحن جمعية خيرية تُعنَى بالأيتام"، أو "هذه رزنامة القديس (ة) فلان (ة)، شفيع الـ... حماك وعائلتك من كلّ شرّ".
والرزنامة التي فقدت للأسف ما كان يصنع سحرها بعدما استُبدلت بوسائل تقنية عديدة، من بينها الهاتف الذكي، ومفكّرة الكومبيوتر، والأجندة الإلكترونية وسواها من التقنيات، ما زالت تحظى بمكانتها في بعض البيوت التي تعوف آلات احتساب الوقت العصرية، وإن كانت قد ضمرت وهزلت وما عادت تحمل لأفراد العائلة المفاجآت مكتوبة على قفا كلّ ورقة من وريقات الأسبوع؛ وصفات أكل، نوادر، حكم وأقوال، تذكير بأحداث تاريخية، إلى ما هناك من شذرات تسرّ القلب وتفرح وتفيد.
وإذ كنت أقف أمام الرزنامة ولا أطاولها، كنت أشعر بأن ثمّة أيّاماً تكون سعيدة آمنة وأخرى لا، ومنها يوم الأربعاء، بسبب وجوده منفرداً في الوسط، فالسبت يتسّق ويوم الأحد، وهما يوما العطلة الأسبوعية والمشاوير، والخميس يُحبّ رفيقه يوم الجمعة، وهما أشبه بأخوين كبيرين يسوقان الناس إلى نهاية الأسبوع. أمّا الثلاثاء فهو صديق الاثنين وسنده وأمين أسراره، في حين يقف الأربعاء المسكين وحيداً، حائراً في أمره وسط أيام الأسبوع، لا يُكلّمه ولا يلعب معه أحد.
يرفعني أبي إلى الرزنامة المعلّقة على جدار المطبخ، ثمّ يحذّرني رافعاً إصبعه: "ورقة واحدة، لا أكثر"، حينما كنت لا أعي الاختلاف في ما بينها، باستثناء أن هناك ما يبقينا دافئين في أسرّتنا غير مضطرّين إلى النهوض في عتمة الصباح لارتداء ملابسنا الباردة والخروج إلى السجن المدرسيّ.
غداً، تبدأ رزنامة جديدة، وسيكون اليوم الأوّل فيها يوم أربعاء، فعساه يكون فاتحةَ عام ينفرد في رأفته وعدالته ورحمته لمظلومي الأرض وفقرائها!