أمثلة وبدائل فاغنر
لا تسمح القوانين الروسية بوجود مجموعاتٍ عسكرية تعمل خارج إطار الحكومة. من حيث المبدأ، يبدو أن هذه القوانين تعمل ضد مجموعة فاغنر القتالية التي تُعرض شركة خاصة، لكنها، في الحقيقة، تؤدّي مساعدة استثنائية، فالمنع القانوني يحميها من المساءلة، ويعفيها من الرقابة، ويطلق يدها للعمل بحرية، بعيداً عن بيروقراطيات الحكومة. ولذلك عملت "فاغنر" بشروط مريحة جداً، وبميزانيات وعوائد غير محدّدة، والأهم لا توجد إحصائيات رسمية للعدد الذي تفقده هذه المجموعة في المعارك التي تخوضها، ومن المعروف أنها الذراع القذرة للرئيس بوتين، وتعمل بشكل رئيسي خارج الحدود، وتمتد عملياتها لتشمل بلداناً في أفريقيا وآسيا وأوروبا، وسجّلت حضوراً مهماً في كلّ من ليبيا وسورية. وتواجهت مع القوات الأميركية في الشمال السوري، حيث فقدت عدداً كبيراً من أفرادها. وقد اعترفت موسكو، بشكلٍ موارب، بهذه الخسائر، من دون أن تشير إليها مباشرة. ورغم الخسائر الموضعية هنا وهناك، حققت المجموعة نجاحات عسكرية وتجارية وأمنية مهمة في العالم. انعكس الوضع العسكري الروسي الصعب في أوكرانيا على مجموعة فاغنر الموجودة على الجبهات الأوكرانية مبكّراً منذ عام 2014، لكنّ وضعها تفاقم بشكل كبير في الأشهر الأخيرة، وأحدث تماسّاً خطيراً مع القوات المسلحة الروسية الرسمية، ما أنتج تمرّداً جعل العلاقة القوية التي تربط صاحب "فاغنر" بالرئيس بوتين تنكسر، وتؤدّي إلى مواجهة عدائية ستدفع "فاغنر" ثمنها في وجودها نفسه، من دون أن يكون ذلك مقدّمة للاستغناء عن مثل هذه الشركات العسكرية، فالباب مفتوحٌ للاستفادة من التجربة وتطويرها.
لعلّ بوتين معجبٌ بتجربة "فيلق القدس" الإيراني الذي يعمل لصالح حكومة إيران في الخارج، محققاً أيديولوجيتها الدينية وبرنامجها العسكري، ويراقب أذرع إيران، خصوصاً في لبنان، حيث سيطرت على الحكم ومؤسسة الرئاسة فترة طويلة، كما كان قريباً من نشاطات حزب الله في سورية، التي حقّقت لنظام بشار الأسد تقدّماً مهماً في المنطقة الوسطى والقلمون. ويمكن اعتبار "فاغنر" شكلاً من حزب الله، أو فيلق القدس، بنسخة روسية، والفرق الوحيد أنّها خرجت عن السيطرة في لحظة واحدة، وشكّلت خطراً على زعيمها الروحي ومموّلها، ووجهت حرابها نحوه، وهذا لم يحدُث مع المليشيات الإيرانية التي ما زالت تحتفظ بولائها. لن تكون "فاغنر" تجربة لبوتين لن يكرّرها، فهذا النوع من التشكيلات العسكرية مهم جداً لنظام كالذي يقوده. وشكل الجيش الخاص وطبيعة مهامه يناسبان الطغيان السلطوي الذي يمثله بوتين، وهو بحاجة لهذا النوع من الجيوش، ولكن بطبيعة قيادية مختلفة، تضمن الولاء والطاعة، وهي مشكلة يمكن أن يجد لها بوتين حلاً.
شهدت سورية في السبعينيات والثمانينيات جيشاً خاصاً قريباً من الشكل العسكري الذي ظهرت فيه فاغنر، تمثل في وحدات عسكرية ذات شكل مليشياوي تسمّى سرايا الدفاع، امتلكت، بشكل أساسي، أسلحة خفيفة ومتوسّطة، ثم توسّعت مهامها، فحازت أسلحة ثقيلة كالدبابات وناقلات الجنود المجنزرة، ووصل تعدادها إلى أكثر من خمسين ألف جندي، موّلتهم الحكومة السورية. كان رفعت الأسد، شقيق الرئيس حافظ الأسد، يقود هذه المليشيا، لكنّها كانت مخصصة لمهام الحماية الداخلية، فانتشرت حول دمشق، ووجهت حرابها بشكل أساسي نحو الداخل. وما حصل مع "فاغنر" حدث مع مليشيا سرايا الدفاع، ففي لحظة ما شعرت هذه المليشيا بقدرتها العسكرية، واصطدمت مع وزارة الدفاع واستقلت عنها، وهدّدت دمشق محاولة الانقلاب على حكومة حافظ الأسد، لكنّ تدخّلاتٍ حاسمة وانشقاقات واسعة حدثت جعلت قائد هذه المليشيا يستسلم على طريقة يفغيني بريغوجين. واختار رفعت منفى ذهب إليه، ومعه ملايين من دولارات الخزينة السورية. لكنّ الأسد لم يتخلَّ عن المليشيا الضرورية لحمايته، ففتك بسرايا الدفاع، وشكل بدلاً عنها مليشيا سمّيت الحرس الجمهوري، ما لبث أن وضع ابنه على رأسها، وبذلك حلّ مشكلة الولاء إلى الأبد.