ألا يخجل الغرب من كل هذه العنصرية؟

ألا يخجل الغرب من كل هذه العنصرية؟

07 نوفمبر 2023

(مروان قصاب باشي)

+ الخط -

لم يكن التعامل السياسي والإعلامي الغربي مع الحرب الدائرة على الشعب الفلسطيني في غزّة مفاجئًا، بل هو امتداد طبيعي لما بدأته بريطانيا قبل مائة عام ونيّف، عندما أصدرت وعدها المشؤوم بإقامة وطنٍ قومي لليهود على أرض فلسطين، ثم لما طبّقه المجتمع الدولي بتفانٍ شديد بعد الحرب العالمية الثانية. ومن يعُدْ إلى التاريخ ير، بوضوح، أنّ هذا الإصرار على دعم الإسرائيليين مهما ارتكبوا من جرائم وفظاعات بحقّ السكان الأصليين الفلسطينيين، ليس أكثر من تعميةٍ على سبب المشكلة الأساسية الكامنة في اضطهادهم لليهود عبر التاريخ، فلم يعرف التاريخ الحديث اضطهادًا لليهود كما فعل الأوروبيون ذاتهم، فالمحرقة أوروبية وليست آسيوية، وهي غربية وليست شرقية، وهي ليست إسلامية، فمن أين تأتي الوقاحة هذه لتعميد اليهود ضحايا في بلادنا وهم كانوا ضحايا أوروبا؟ ومن أين تأتي الفصاحة هذه لاختراع ما تسمّى "الثقافة اليهودية – المسيحية الأوروبية"، بعد أن أحرق الأوروبيون "المسيحيون" اليهود أحياءً في أفران الغاز؟ وكيف للعالم أن ينسى من شرّد اليهود من أوروبا ونقلهم إلى فلسطين؟
عند المقارنة بين قضيتين شبه متماثلتين، كالحرب الروسية على أوكرانيا والأوكرانيين والحرب الإسرائيلية على غزّة والفلسطينيين، يمكن للحصيف رؤية الانحياز على حقيقته، والعنصرية على أشدّها، فالحكّام والقادة الروس محتلون معتدون ومجرمو حرب، وهذا صحيح، وتمّ بسرعة شبه قياسية إحالة ملف جرائمهم في أوكرانيا إلى المحكمة الجنائية الدولية وأحيل الرئيس الروسي، بوتين، ذاته إليها، في سابقة هي الأولى من نوعها بحقّ رئيس دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن، بينما الساسة الإسرائيليون وضباط الجيش والأمن والشرطة ضحايا أبرياء مدنيون، وما يفعلونه في فلسطين منذ 75 سنة هو مجرّد مزاحٍ مع أهل البلد وسكّانها الأصليين، وبالتالي، لا مجال لمساءلتهم على ظرافتهم وخفّة دمهم! يبدو أنّ عقدة الغرب مقابل الشرق لا يمكن أن تزول بمجرّد ادّعاء تمثّل حقوق الإنسان وقيم الديمقراطية، ولا يمكن أن تزول عقدة التفوّق العرقي لمجرّد تطوّر العلوم ونفيها هذه الأسس المغلوطة للبناء والأطر النظرية للتفكير. 

تحويل الضحية القديمة، ضحية اضطهادهم هم ذاتهم، إلى جانٍ مرتكبٍ أفظع الجرائم ضد الإنسانية، ما هو إلا شيطنة الضحيّة ذاتها لإغراقها في سلوك الإجرام

في مقارنة سريعة وبسيطة لا تحتاج كثير تحقيق، يمكن للمرء أن يكتشف مدى سطحيّة القيم الإنسانية التي ترفع شعاراتها الدول الديمقراطية الغربية، فالواضح من هذا الاصطفاف الرهيب خلف الأوكرانيين، وهم على حقّ في قضيتهم، وخلف الإسرائيليين وهم يضربون عرض الحائط بكل القرارات الدولية وقوانين الحرب وحقوق الإنسان، أنّ العوار لا يصيب السياسة والإعلام فقط، بل يصيب الفكر الغربي كلّه، فكيف لعاقلٍ أن يقدّم كل الدعم السياسي والمادي لجيشٍ يعلن قادته أنّهم ماضون في قتل المدنيين وتدمير الأعيان المدنية المحمية بموجب القانون الدولي من مدارس ومشافٍ وجامعات ودور عبادة، ويقطع مياه الشرب والكهرباء عن مليوني إنسان محاصرين منذ 16 عامًا، إن لم يكن منفصمًا عما يعلنه من قيمٍ ومبادئ؟
الموضوع أكبر من اصطفاف سياسي إذن، إنّه انحيازٌ عنصري لا يخفي نفسه، وهو لا يعود إلى مجرّد خلاف في أنظمة الحكم أو مستويات التقدم الاقتصادي أو الثقافي أو الحضاري كما يحلو لهم تسميته، بل هو تكريس لكره دفين لليهود ذاتهم ومحاولة لإظهار العكس من خلال آليات الدفاع النفسية الجماعية الواعية وغير الواعية. عندما يصدّر الغرب "المسيحي" الديمقراطي الليبرالي مشكلة الوجود اليهودي من أوروبا إلى فلسطين والعالمين، العربي والإسلامي، فإنّه يحاول أن يريح ضميره الذي أنهكه إرث مئات السنين من اضطهاد اليهود والذي تكلل بالهولوكوست. ليس ثمّة مبرّر، إذن، لهذا التعاطف الفاقع والزائد عن الحد واللزوم إلا الخروج من معضلة الشعور العميق بالذنب. أمّا تحويل الضحية القديمة، ضحية اضطهادهم هم ذاتهم، إلى جانٍ مرتكبٍ أفظع الجرائم ضد الإنسانية، فما هو إلا شيطنة الضحيّة ذاتها لإغراقها في سلوك الإجرام، ما يعني، من حيث النتيجة، نقل عبء تحمّل المسؤولية عن كاهل مضطهدها الأساسي إلى كاهل جهةٍ أخرى، هي للمصادفة ضحيّة جديدة لا ذنب لها ولا ناقة في الصراع الساسي ولا جمل.

يبدو أن لا فرق بين حكام الشرق والغرب إلا في مستويات الإسفاف في استخدام القيم والمبادئ لمسح أحذيتهم بها

ماذا يعني أن يهبّ رؤساء دولٍ مثل الولايات المتحدة لتبنّي رواياتٍ مغلوطةٍ عن قتل الأطفال الإسرائيليين وقطع رؤوسهم وسبي النساء من مقاتلي حركة حماس من دون تدقيق أو تمحيص؟ وماذا يعني أن تمنع الشرطة الألمانية الناس من محاولة التضامن مع أهل غزّة المدنيين لا مع المقاتلين من "حماس" وغيرها؟ وماذا يعني أن يهرع وزراء خارجية كثير من هذه الدول لزيارة تل أبيب، حاملين العهود بتقديم السلاح والذخائر؟ ماذا يعني مقابل هذا ألا يدين أيّ منهم قتل المدنيين وتهديم أحياء سكنية كاملة فوق رؤوس ساكنيها؟ ماذا يعني إصرارُهم على حق إسرائيل بقطع المياه والكهرباء عن المدنيين في غزّة ومنعهم وصول المساعدات الإنسانية من خلال تأييدهم في قصفهم معبر رفح وغيره من المعابر؟ 
ليست المسألة قيمًا ديمقراطيةً وحرياتٍ وحقوقَ إنسان، فلهذه تصنيفات مختلفة كما يبدو، فأن تكون أوروبيًا أو مطرودًا عبر الهولوكوست الأوروبي فهذا يعني أنك تستحقّ التصنيف في خانة المستفيدين من هذه البضاعة، أما أن تكون عربيًا أو مسلمًا فهذا يعني أنّك درجة ثانية، أو حتى صنفٌ آخر لا تنطبق عليه مواصفات مستحقي التنعّم بهذه المنتجات الغربية الأوروبية! ورغم أنّ غالبية الشعوب الغربية تعرف الحقيقة، ولا تقبل هذا السلوك التمييزي الجائر والمفضوح، إلا أنّه على ما يبدو لا فرق بين حكام الشرق والغرب إلا في مستويات الإسفاف في استخدام القيم والمبادئ لمسح أحذيتهم بها، فماذا فعلت الديمقراطية وحقوق الإنسان لتمنع هؤلاء الحكّام من عنصريّتهم المقيتة ومغالاتهم بها، ومتى سيخجل الغرب من عنصريّته ويترك التشدّق علينا بالحكم والمواعظ؟

56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
حسان الأسود

كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.

حسان الأسود