أسبوع الحريرية في لبنان
غادر رئيس الحكومة اللبناني الأسبق، سعد الحريري، بيروت، إلى مقر إقامته في الإمارات، بعد زيارة استمرّت أسبوعاً، في مناسبة ذكرى اغتيال والده الرئيس رفيق الحريري التاسعة عشرة، وأحدثت الزيارة استطلاعات أوليّة، وانشغل الإعلام والوسط السياسي بها بعد عامين على التعليق السياسي والغياب عن لبنان. لم تحمل الزيارة كما المغادرة مفاجأة وكانت مرتقبة، ولا تزال الظروف السياسية نفسها مقيمة، وسط معاناة اللبنانيين من رداءة الأوضاع على المستويات كافة، وفي ظل هيمنة حزب الله، وفاقم فيها المشروع الإيراني في المنطقة، ومنطق الترغيب والترهيب في استثمار مساندة الشعب الفلسطيني في مقاومته حرب إسرائيل على غزّة .
خرقت الأيام التي أمضاها الحريري الركود السياسي العام الذي يعيشه لبنان، وأرسلت إشارات أن اللبنانيين لم يفقدوا الأمل بدور ما لبيت الحريري، ولا تزال تقصد "بيت الوسط " بحرارة عاطفية. وقد تقاطرت عائلات وأجيال جديدة شابة من مناطق لبنانية مختلفة، وأجرى الزائر لقاءات مع أطياف سياسية ودينية عديدة، ما يدحض فكرة الإلغاء والغياب نسبياً.
وعُلقت آمال كبيرة حول إمكانية معاودة سعد الحريري مزاولة نشاطه السياسي، وانتهت إلى استنتاج رئيسي أنّ عودته الفعلية لم يحن أوانها بعد. اكتفى الحريري بكلمات مقتصدة أمام جمهوره "حافظوا على البلد، وكل شيء بوقته حلو"، مهادناً الظروف والجهات التي كانت من أسباب قرار اعتكافه، معوّلا على زخم شعبي حيوي يسمح بإزالة اعتراضات وعدم وضوح مقصود في الموقف العربي (مصلحته الحقيقية في إنقاذ لبنان)، فيما تحافظ المصلحة الإيرانية المتمثلة في البلد على غموضها.
لم يكن رفيق الحريري من نسيج الطبقة السياسية، عالج الخلل الديمغرافي في تركيبة النظام، ومشى في سياسة حوارية معتدلة
لكن الأمر ليس بهذه السهولة في جملة تحوّلات حصلت على وسع المنطقة، ومآلات ضخمة مجهولة ما بعد طوفان الأقصى في 7 أكتوبر. قد تكون الحرب على غزّة عزّزت الانتماء إلى البيئة السنيّة بصورة متزايدة في ظل أحداث ثقيلة، تكتنفها الشكوك والمخاوف من حرب إسرائيلية على لبنان، وارتقاء أمين حزب الله، حسن نصرالله، بسلم بالمواجهة إلى رتبة "الدم مقابل الدم" (شريعة حمورابي)، فكسرت التطورات صورة "اللوك" الشاب الذي يأتي في سياق آخر مختلف تماماً، ليس قادراً على إعلان موقف حاسم من الأوضاع، ولا بقادر على المواجهة، أو البناء على تعبير سياسي آخر، إلا إذا تعزّزت ظروف أكثر وضوحا في الداخل والخارج.
يحتاج اللبنايون من يعيد إليهم الأمل بانتظار الحقائق الصعبة التي ستتبلور عبر "اللجنة الخماسية" أو التفاهمات الإيرانية - السعودية، أو الأميركية / الفرنسية - الإيرانية. إذاً، الأجوبة في أمكنة أخرى، ومرتبطة بظروف المنطقة وتطوّراتها، فأسباب غياب سعد الحريري هي نفسها في خطوطها العريضة، ليست مختلفة كثيراً عما كانت عليه الأمور لدى إعلان استقالته على وقع احتجاجات الشارع في 29 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، لم تبدّدها صورة اللقاءات الحارّة مع المناصرين والحلفاء وذات الدفء مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، والباردة مع القوات اللبنانية ووليد جنبلاط.
لم تخرُج الزيارة (لامست السياسة عرضا) عن تأثير التعاطف الشعبي الكبير مع ذكرى استشهاد رفيق الحريري الذي يعيد اللبنانيون اكتشافه أكثر من أي وقتٍ مضى، وعلى نطاق واسع جدا في استطلاعات مستقبل البلاد وتطوّرها بعد سلسلة الانهيارات في المرافق العامة. وتتحمّل الطبقة السياسية مسؤولية تردّي الأوضاع العامة، وبفقدان الرؤية الوطنية، وغياب السياسات العامة التي تؤدّي إلى المنفعة والخير العام والإصلاح. ثمّ هي الحاجة إلى معادلة جديدة في موازين القوى الجديدة عبر ترميم "تيارالمستقبل"، بما هو سياسي وسطي معتدل، وإن مرحليا عبر بوابات العمل الاجتماعي والخدماتي، تمهيداً لعودةٍ قد تحدُث، أو قد لا تحدُث بانتظار اليوم التالي.
قد تساعد الصورة الحريرية السياسية أن تبقى عنواناً لثقافة الحياة والعيش مع الآخر المختلف، لكنها لن تنجح من دون إعادة تشكيل التوازن الداخلي، والعربي عموماً
لم يكن رفيق الحريري من نسيج الطبقة السياسية، عالج الخلل الديمغرافي في تركيبة النظام، ومشى في سياسة حوارية معتدلة، منحازا إلى الخيارات التي تبني مسارات الإنماء والعمران وتعالج مسائل الخراب والفقر والعوز. كرّس نفسه لخدمة لبنان والسعودية والقضية الفلسطينية. دفع أساسياً باتجاه استقلال لبنان عن الهيمنة السورية، وأرسى تحالفاً وطنياً عريضاً من القوى السياسية، لكن القيمة المضافة التي وفّرها إلى منجزه الحضاري (الشاهد الوحيد المتبقي الداون تاون في بيروت )، كان الدعم العربي والدولي الذي ساهم في تشريع وثيقة الطائف التي أنهت الحرب الأهلية، ولاحقا في مواجهة الغزو الإسرائيلي وإرساء "تفاهم نيسان (1996) الذي شرعّ عمل المقاومة الوطنية. وحظي لبنان بفترة من الاستقرار والإنماء وتدفق الرساميل وثقة مراكز المال العربية واللبنانية والمؤسّسات المالية الدولية. ولكن مسيرة الحريري اصطدمت بتحدّيات النظام السياسي ومشكلات مزمنة والمحاصصة والفساد ومعارضات لمشروع إعمار ضخم لا توازيه إلا مشاريع العمران بعد الحروب الكبيرة. وأراد أن يعيد لبنان تموذجا في منطقة الشرق الأوسط. أخذ الشباب إلى أرقى الجامعات العالمية نموذجاً للشباب العربي، يطرحون أنفسهم على العالم عنوانا للحضارة والتقدّم في منطقة غنية بالثروات الطبيعية والإنسانية، فرصة للترقّي والتعلم مع توسيع فكرة الانصهار في الحداثة العالمية. أراد تحدّي إسرائيل في التقدّم العلمي ومواجهة مشروع التفوّق الحضاري في المنطقة. اغتيل الرجل لأن نجاحه وحجمه لم تستسغهما أنظمة سلطوية وأيديولوجية عاجزة عن التغيير. وحين أطلقت مبادرة السلام العربية 2002، تحوّل خطراً على النظام المتطرّف في المنطقة. وفشلت المقاومة الإيرانية في الرؤية والمشروع، حين بدّدت فرصة مؤتمر سيدر (2018)، ولحظة من التسويات، سقطت معها الدولة والشعب في قاع واحد.
قد تساعد الصورة الحريرية السياسية أن تبقى عنواناً لثقافة الحياة والعيش مع الآخر المختلف، لكنها لن تنجح من دون إعادة تشكيل التوازن الداخلي، والعربي عموما، حيث لن تخرج دول منطقة الشرق الأوسط من أزماتها وحروبها الداخلية، إلّا في "طائف"، يشبه الاتفاق الذي وقع عليه اللبنانيون عام 1999، ومن خلال فهم مساحات (ومساهمات) البيئات المحيطة بمشاريع التسويات السياسية والعمران والاستثمارات، وفي مواجهة حضارية وحداثية وتواصلية واحدة في مواجهة الغزو البربري الإسرائيلي والغربي غير المسبوق.
عودة للحريري الابن إلى بيروت معلقة مرتبطة بتطور الوضع الإقليمي، وبإعادة تقييم الأمور وتنظيمها لبنانيا بعد فشل النواب الجدد في تعبئة الفراغ. يبقى تعقّب أثر المؤشّرات على تطوّر لافت في المشهد الرئاسي، من نوع اللقاء في بيت الوسط الذي جمع بين الحريري والمرشّح الرئاسي الوزير السابق سليمان فرنجية، وفي استعادة الدور المحوري للطائفة السنّية، الذي لا غنى عنه للبنانيين والعرب والعالم. لبنان يبحث عن صلة تصله بالمستقبل، في وقت تشن فيه إسرائيل حربا مجنونة وحشية عنصرية على الفلسطينيين. يريد سعد الحريري العودة ويأخذ مهامه السياسية، يريد أن يستعيد لبنان ما خسره في الإقليم والعالم. لكن الظروف كما هي قد لا تخدمه، والعكس هو الصحيح.