أزمة تونس وأوهام قيس سعيد

18 مارس 2021
+ الخط -

بعد شهرين على أزمة التعديل الوزاري في تونس، ما زالت القطيعة بين رئيس الجمهورية، قيس سعيد، من جهة، ورئيسي الحكومة والبرلمان، هشام المشيشي وراشد الغنوشي، تراوح مكانها وسط تمسك كل طرف بموقفه، فصارت صراع كسر عظام. وقد رفض سعيد كل مبادرات تقريب وجهات النظر بين الأطراف المتصارعة لإنهاء الأزمة، متمسكا بعدم تراجعه عن رفضه التعديل الوزاري، واشتراطه استقالة رئيس الحكومة، المشيشي، الأمر يرفضه الأخير بشدة. لا يرى رئيس مجلس النواب، راشد الغنوشي، مبررا لاستقالة رئيس الحكومة، وبالتالي تغيير الحكومة. "فالبلاد تحتاج إلى استقرار سياسي لبدء إصلاحات اقتصادية عاجلة"، مؤكّدا ضرورة إجراء حوار اقتصادي وسياسي، يشمل الدستور الذي باتت آليته معطلة، بسبب رفض رئيس الدولة القيام بواجبه بقبول أداء الوزراء المقترحين والحائزين على ثقة نواب الشعب، اليمين أمامه. ووصلت تداعيات الأزمة إلى دعوات، من كتل برلمانية عديدة وخبراء وأساتذة فاعلين في المشهد السياسي، إلى تعديل النظام السياسي، وذلك ما أصبح سعيّد يلوح به، فيما يجمع هؤلاء على أنه ليس من حق رئيس الجمهورية اتهام وزراء مقترحين بالفساد متعلّلا بالدستور، فتهم الفساد، كما يرون، خطيرة، يفصل فيها القضاء وحده، إذ بدا الرئيس في هذه الحالة وكأنه محكمة تعقيب تنقض ما اقرّه البرلمان.

أعطى الدستور التونسي الحالي للبرلمان هيمنة مطلقة على الحياة السياسية للبلاد، ما يجعل الجميع في شبه طريق مسدودة

هل يمكن في ظل الدستور القائم وغياب المحكمة الدستورية تغيير النظام السياسي كآلية للخروج من الأزمة الراهنة؟ يتحقق تغيير النظام السياسي في الأدبيات الدستورية العامة بطريقتين، أولاهما التفكير في إدخال مرونة في استعمال حل مجلس نواب الشعب، عند الاقتضاء. وثانيتهما تعديل الدستور.

حل البرلمانات عامة إمكانية منحتها دساتير عديدة لرئيس الجمهورية في دول ديمقراطية عريقة، وهي لا تتعارض إطلاقا مع الديمقراطية. ويجمع فقهاء القانون الدستوري على أن حل البرلمان ليس انقلابا تقوم به السلطة التنفيذية ضد النواب، بل هو دعوة الشعب إلى حسم نزاع خطير بين السلطتين، التنفيذية والتشريعية. وقد اعتبر شرَّاح القانون الدستوري حل البرلمان إمكانية دستورية للخروج من الأزمات، كما أنه استعمال لوضع حد لوضعية سياسية معينة، مثل المساكنة التي تكون فيها السلطة التنفيذية ذات رأسين، كما هي الحال في تونس. ومعلومٌ أنه في فرنسا مثلا وقع حل البرلمان 18 مرة، منها خمس مرات عند قيام الجمهورية الخامسة في عهود ديغول وميتيران وشيراك. وقد منحت عدة دساتير لرئيس الجمهورية الحق في حل البرلمان بصفة مطلقة، كما في النمسا والدنمارك وفرنسا واليونان وإيطاليا واليابان وغيرها. وفي دول أخرى، يتم حل البرلمان عند توفر بعض الشروط، ألمانيا وبلجيكا ورومانيا وغيرها. ومعلوم أن مجلس العموم البريطاني حلّ نفسه ذات مرة، والغاية من هذه الطريقة دعوة الشعب إلى انتخابات تشريعية، عندما يحاول رئيس الدولة، أو رئيس الحكومة، التقليص من نفوذ البرلمان.

هنالك إجماع على أن رئيس الجمهورية لن يغامر باستعمال الفصل 99 من الدستور، خشية أن ينقلب عليه، ويصبح مستقيلا من منصبه رغم أنفه

وبالعودة إلى الحالة التونسية، وفي سياقات الدعوة إلى تغيير النظام السياسي بحل البرلمان، والمضي إلى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها، فقد تعرض دستور 2014 لإمكانية حل مجلس نواب الشعب في حالتين: نص على الأولى الفصل 89، وفيها: "إذا مرّت أربعة أشهر على التكليف الأول، ولم يمنح أعضاء مجلس نواب الشعب الثقة للحكومة، لرئيس الجمهورية الحق في حل مجلس نواب الشعب، والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة، في أجل أدناه خمسة وأربعون يوما وأقصاه تسعون يوما". ويفهم من هذه الفقرة أن الدستور أعطى لرئيس الجمهورية في هذه الصورة الحق في حل المجلس، ولم يفرض عليه ذلك، طالما أنه استعمل جملة "لرئيس الجمهورية الحق ..."، أي ترك الأمر اختياريا له. الصورة الثانية، نص عليها الفصل 99 من الدستور الذي مكّن رئيس الجمهورية من ممارسة حقه مرتين على الأكثر خلال المدة الرئاسية، في أن يطلب من مجلس نواب الشعب التصويت على الثقة في مواصلة الحكومة نشاطها بالأغلبية المطلقة لأعضاء المجلس. وفي هذه الصورة، إذا مارس الرئيس قيس سعيد هذا الحق، فإنه لا يخلو من حالتين، فإما أن يمتنع المجلس عن منح الثقة للحكومة، فتصبح مستقيلة، فيتم تكوين حكومة جديدة في أجل أقصاه ثلاثون يوما، طبقا لأحكام الفصل 89. وفي صورة عدم الحصول على ثقة المجلس، يكون لرئيس الجمهورية الحق في حله. أما إذا جدّد مجلس نواب الشعب الثقة في الحكومة في المرّتين، فان رئيس الجمهورية يعتبر مستقيلا.

ومن الواضح أن سعيّد لا يرغب في استعمال الآلية الواردة بالفصل 99، خوفا من أن يصبح هو نفسه مهدّدا بالاستقالة إذا منح المجلس الثقة للحكومة، وهي استقالة إجبارية، بل هي تعتبر بمثابة العزل، ولا يتدخل فيها أي جهاز آخر. وهنالك إجماع في المشهد السياسي على أن رئيس الجمهورية لن يغامر باستعمال هذا الفصل من الدستور، خشية أن ينقلب عليه، ويصبح مستقيلا من منصبه رغم أنفه. ويوضح أستاذ القانون الدستوري، عبد الله الأحمدي، أن حل مجلس نواب الشعب بيد النواب، إذ يكفي أن يمنحوا الثقة لأية حكومة لتفادي حل المجلس. وبذلك فإن احكام الدستور التونسي الجديد قد أغلقت تقريبا أبواب حل مجلس النواب، وجعلت مفتاحه بيد هؤلاء دون سواهم... وبالتالي، ما يلوّح به سعيد، في السر والعلن، من كلام عام عن إمكانيات حل المجلس أو التهديد بحله هو في الحقيقة ليس من مشمولاته.

تغيير النظام السياسي للخروج من الأزمة الراهنة مستحيل، بدون موافقة أغلبية مجلس النواب، ويصعب توفرها

أما تغيير النظام السياسي بتعديل الدستور كإمكانية ثانية، فإن الفصل 144 من دستور 2014، قد أوجب الأمر لرئيس مجلس نواب الشعب، شريطة عرض ذلك على المحكمة الدستورية لإبداء الرأي، والتأكد من أن هذه الدعوة لا تتعلق بما لا يجوز تعديله. وفي غياب المحكمة الدستورية حاليا، تظلّ هذه الإمكانية الثانية لتغيير النظام السياسي في تونس معطّلة. وفي صورة تعديل الدستور عن طريق الاستفتاء، لا يتم ذلك إلا بعد موافقة ثلثي أعضاء مجلس نواب الشعب على ذلك. وفي المحصلة، مجمل الإمكانيات لتغيير النظام السياسي في تونس تعود أساسا إلى البرلمان. ومن هنا، يمكن فهم الإيهام العام الذي يلوّح به قيس سعيد من دون الدخول في التفاصيل لتعديل النظام السياسي الذي يبقى بعيدا عن صلاحياته.

الأمر إذا ليس هيّنا، كما يتوهم رئيس الجمهورية، ومساندوه من بعض أحزاب المعارضة، كالتيار الديمقراطي وحركة الشعب، فقد أعطى الدستور التونسي الحالي للبرلمان هيمنة مطلقة على الحياة السياسية للبلاد، ما يجعل الجميع في شبه طريق مسدودة، إذ يكاد تغيير النظام السياسي للخروج من الأزمة السياسية الراهنة يكون مستحيلا، بدون موافقة أغلبية مجلس نواب الشعب، وهي أغلبية يصعب توفرها... وبذلك يمكن القول إن قيس سعيد لم يعد جزءا من المشكلة، بل لعله أصبح المشكلة ذاتها.

35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي