أربع كبائر إسرائيلية غير مسبوقة

11 يونيو 2024
+ الخط -

لعل اسم "حرب الإبادة الجماعية"، المتداول بكثافة في عوالم الميديا والدبلوماسية والأكاديميا غداة "طوفان الأقصى"، أكثر التسميات انطباقاً على مجريات العملية الوحشية الجارية ضدّ غزّة منذ نحو 250 يوماً، وأبلغها تشخيصاً لماهية هذه المقتلة المتواصلة بضراوة شديدة، نظراً إلى تطابق وقائعها الجرمية مع التعريفات والأحكام والمعايير والشروط القانونية المعمول بها لدى محكمة العدل الدولية، ومجلس حقوق الإنسان، والأمم المتّحدة، وغيرها من المُنظّمات الحقوقية المرموقة، الأمر الذي لا يمكن معه استبدال هذه التسمية المُتّفق عليها بأيّ مصطلح فقهي آخر، أو إسقاطها من الوجدان الإنساني، أو محوها من السجلّات التاريخية، وخزانة الذاكرة الجمعية.
غيرَ أنّه في خضمّ حرب الإبادة المجنونة، هذه، وفي معارجها الطويلة المُميتة، تجلّت لكلّ ذي بصيرة عدّة كبائر (جمع كبيرة) لا سوابق مماثلة لها في الحروب المعاصرة، على الأقلّ، منذ الحرب العالمية الثانية، اقترفتها قوات الاحتلال المُدجّجة بروح الانتقام على رؤوس الأشهاد، ضدّ الإنسان والمكان الغزّيَّين بصورة منهجية مُفرطة في الإيلام وسفك الدماء وإزهاق الحيوات من جهة، وإنزال الدمار والخراب الكلّي، وتقويض مُقوّمات الحياة الآدمية في القطاع المحاصر، من جهة أخرى. ذلك، إلى جانب جملة طويلة من الجرائم المُشابهة في الشكل والغاية، مُوثّقة كلّها بالأدلّة القاطعة، ومعروض بعضها أمام القضاء الدولي، سننتخب منها في هذه العجالة أربع كبائر كبيرة، تُرى بالعين المُجرّدة وتُلمس بأصابع اليد الخمسة.
الأولى، ماثلة في عملية إعدام السكّان، بقرار مركزي وعلى أوسع نطاق ممكن، سيّما الأطفال والنساء، وحتّى الرضّع، على نحو منهجي يستهدف قطع النسل ووقف تعاقب الأجيال، أو ما يُحاكي حكم إعدام جماعي كامل، وتطهير عرقي شامل، إن لم نقل الإبادة الجماعية بعينها، من دون تزيّد، تفعيلاً لأهداف هذه الحرب ذات الجذور الدينية، وتماهياً مع شعاراتها وتصريحات قادتها بأنْ لا أبرياء في غزّة، وناسها حيوانات بشرية، ولا مدنيين في القطاع المُكتظّ بالسكان، تسويغاً للمجازر اليومية، وتبريراً لقتل عشرات الآلاف من دون وخزة ضمير (هل قلنا وخزة ضمير؟)، فضلاً عن التجويع والتعطيش حدّ الموت، ومسح مُخيّمات اللاجئين ودلالتها الرمزية.
الثانية، عملية إعدام، أيضاً، لكن، هذه المرّة، للمكان بقضّه وقضيضه، بما في ذلك الحرث والزرع والضرع، والشوارع والأزقّة والأبراج، وشبكات المياه والكهرباء والصرف الصحّي، والمدارس والجامعات، وسيّارات الإسعاف، وكلّ مَعْلَمٍ يدلّ على أنّه كانت هناك في هذا المكان حياة بشرية ذات يوم، وأنّ مَعْلَماً حضرياً ما قام في ذلك الشريط الساحلي الضيّق في المدينة، التي سبق لرابين أنّ تضرّع إلى السماء، وكان وزير حرب في زمن انتفاضة الحجارة، أن يصحو من منامه ذات صباح، ويجد غزّة وقد ابتلعها البحر، وذلك، لهول ما عاناه المُحتلّون والمستوطنون من خسائر شديدة، وما تجرّعوه من كؤوس طافحات بالدم.
الثالثة، تُجسّدها الحرب الشاملة على المستشفيات والأطباء والأجهزة الطبّية، وحتّى على المرضى في أسرّتهم المُتهالكة، وعلى أيّ مركز طبابة تشتدّ الحاجة إليه في وقت الحرب، في سابقة جرمية مُشينة، الأمر الذي يكشف مدى ازدراء مُدّعي الديمقراطية القانون الإنساني الدولي، وعن خسّة زاعمي الدفاع عن الحضارة ضدّ البربرية، واستخفافهم بما تسمّى "أخلاقيات الحرب"، كما يُميط اقتحام المستشفيات وتخريبها اللثامَ عن روح آثمة يتفرّد بها أحفاد عصابات الهاغاناه وشتيرن وأرغون، أمثال نتنياهو وسموتريتش وكرعي وبن غفير، وغيرهم من المجانين الحالمين بمحو الوجود الغزّي من أساسه، وبالعودة إلى غوش قطيف.
أمّا الكبيرة الرابعة، التي لم تخطر حتّى على بال الشيطان نفسه، فقد تجلّت أمّ الكبائر هذه، بكامل عارها وشنارها، عندما شرعت بلدوزرات الاحتلال الثقيلة في تجريف المقابر في القطاع المُدمّر المحاصر، في سابقةٍ لا سابق لها في تاريخ الحروب والصراعات بين الأمم والشعوب، إمّا لإشباع شهوة الانتقام، ليس من الأحياء فحسب، وإنما من الأموات أيضاً، وإمّا لاستكمال مسح أيّ مَعْلَمٍ دالّ على أنّه كان على هذه الرقعة الصغيرة، في يوم ما، نبض حياة وأفراح وأحزان وأغنيات، الأمر الذي بدت معه دولة الاحتلال والإجرام بين تلك المقابر، وكأنّها في سباق مع نفسها على مسار تاريخي طويل مُثقل بالمجازر الثقال، من عهد يوشع بن نون (فتى موسى) إلى زمن القتلة الأشرار أمثال ديان وبيغن وشارون، وحدّث ولا حرج عن نتنياهو وبن غفير.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي