حكم الساحة يُطلق صافرة النهاية

04 يونيو 2024

بايدن بعد إعلانه في غرفة الطعام بالبيت الأبيض مقترح وقف إطلاق النار بغزة (31/5/2024 Getty)

+ الخط -

بعد تسويف نحو أربعة أشهر، مُدّد خلالها وقت المباراة مرّات، وغادر في غضونها المُتفرّجون مقاعدهم في المدرّجات، وخفّت تدريجياً حرارة الهتافات على جانبي الاستاد، أطلق حكم الساحة، أخيراً، صافرة النهاية، مُعلناً اختتام المباراة الساخنة التي امتدّت زمناً أطول من كلّ المباريات السابقة على مدار 76 سنةً، تخلّلت بعضها منافسات قصيرة، أحياناً من شوط واحد، سجلّ فيها الفريق، المُدرّب جيداً والمجهّز بأفضل المعدّات، أغلب الأهداف الحاذقة من دون ردّ، وفاز في معظمها، وجمع كلّ النقاط المُؤهِلة للاحتفاظ بالكأس.
كان حكم الساحة، الحاضر من دون دعوة في سائر المباريات الدولية، رغم أنّ "فيفا" لم تنتدبه أصلاً (نظراً إلى ما درج عليه من سلوكيات فاضحة، وتجاوزات بالجملة)، قد كلّف نفسه بنفسه عناء قيادة اللقاء المديد في الملعب الغزيّ الصغير، لغاية مبيّته في نفس الصهيوني الكبير، وبالفعل، صدقت التوقّعات المُسبقة عن الحكم العجوز، فبدا على الشريط الأخضر المستطيل طرفاً أكثر منه حكماً، يصرف النظر عن مخالفات فريقه المُفضّل، ويُكثر من إيقاع الجزاءات على المنتخب الذي كان قد فاز في الجولة قبل أن تبدأ، وحسم النتيجة في ستّ ساعات فقط، من صباح "7 أكتوبر" المجيد.
أكثر من ذلك كلّه، كان حكم الساحة المُنحاز بطبعه، يخرق قواعد اللعبة كما يشاء، يُطيل من تلقاء ذاته أمد المباراة، ويمنح فريقه الأثير شوطاً إضافياً بعد شوط، ويُؤجل اختتام اللقاء، حسب ما يشتهي الفريق العاجز عن تحقيق ولو هدف واحد يتيم، يُغطّي به عورة الفشل الأكبر في غلاف غزّة، قبل نحو ثمانية أشهر طافحات بالإخفاقات، وهذا ما كان قد دوّنه الكاتب الشهير جدعون ليفي، المعارض للاحتلال وللحرب الإجرامية على غزّة، في صحيفة هآرتس، بعد أسابيع قليلة من بدء الاجتياح، إذ قال إنّ الحرب قد انتهت في واقع الأمر، لكنّ الفريق الخاسر يرفض مغادرة الملعب، ويطلب مزيداً من الوقت.
على أيّ حال، ها هو الحكم ذاته، سيّد البيت الأبيض بشحمه ولحمه، حامي حمى الدولة العبرية بالباع والذراع، يُطلق، بعد لأي شديد، صافرة النهاية، ويعلن، بعظمة لسانه، أنّ الوقت قد حان لاختتام المقابلة الوحشية، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من حطام الدولة المعزولة المنهكة، وذلك، بعد أنّ رأى جو بايدن، بأمّ عينه، أنّ الفريق الذي منحه الدعم والعتاد، والوقت اللازم لهزّ الشبكة، وعوّل عليه كثيراً لإعادة ترميم الصورة المكسورة، واستعادة هيبة الردع، قد فوّت الفرصة، وراح يراوح في مكان، وغاص في رمال غزّة.
بكلام آخر، لقد استنفدت الحرب على غزّة أغراضها، وفقدت زخمها، حتّى وإن راوغ المطلوب محكمة الجنايات الدولية وكابر لبعض الوقت، وتفلّت من نتيجتها المكتوبة بالخط الأحمر على الحائط الممتدّ من إصبع الجليل إلى رفح، وهي أنّ غزّة الباسلة، وصمود الشعب الفلسطيني ومقاومته الأسطورية، قد ربحوا الحرب، أبى من أبى، وأنّهم صنعوا بلحمهم الحيّ، بتضحياتهم الهائلة، بعذاباتهم الشديدة، ملحمة العصر بكلّ جدارة، حقّقوا المعجزة شبه المستحيلة، غيّروا وجه الشرق الأوسط، فرضوا أنفسهم حقيقةً نهائيةً، وجعلوا من الكوفية والعلم الفلسطيني، معاً، أيقونةً لدى الرأي العام الغربي والحركة الطلابية العالمية.
من غير حماسةٍ زائدة، أو انجراف وراء الفِكَرِ الرغائبية، أحسب أنّ هذا المكسب بوقف الحرب المجنونة، المُتحقّق بثمن باهظ جداً، سيّما وأنّ المقاومة لا تزال واقفة على رجليها، يُعدّ في حدّ ذاته هزيمةٌ للاحتلال، وأنّ هذا الإنجاز، الذي يشارف ضفاف نصر تاريخي مُستحَقّ، لن يتوقّف عند حدود وقف الحرب الإجرامية، لما تنطوي عليه هذه المُعطيات من مغزى، وما تطلقه من ديناميات مرتقبة في المدى المنظور، وأهمّها تحرير مئات القادة وآلاف الكوادر من الحركة الأسيرة، ناهيك عن تسريع مفاعيل هذه المتغيّرات على الواقع المأزوم في الجانب الآخر، بما في ذلك، مُركّبات الوعي والرواية والمفاهيم والسردية، وكلّ ما استقر في تلك العقلية المسكونة بالعجرفة وبالفِكَرِ الفاشية.
قد نرى عمّا قريب العجب العجاب في المجتمع المصاب، منذ طوفان الأقصى، بالهستيريا، وقد نستمتع بمشاهدة حفلة مشادّات وتمزقات ولوم وردّات فعل ماجنة، يشارك فيها أولئك المجانين، الذين استولوا على المصحّة العقلية قبل نحو عام وأكثر، حين رفعوا قطعان الجنائيين المطلوبين للقضاء؛ اللصوص وزعران التلال والأوباش والكاهانيين إلى سدّة الحكم، من أمثال بن غفير وسموتريتش، والنوّاب، الذين قدّم أحدهم طلباً الى الشرطة لاعتقال بايدن حال وصوله مإلى طار اللدّ، لأنّه أذاع مشروع وقف إطلاق النار قبل أن تجيز نشره الرقابة العسكرية.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي