أخطر أنواع الإفلاس
من المفترض نظريًا أن كل تقارب بين العرب وإيران يعني تباعدًا عن الكيان الصهيوني. وعلى ضوء ذلك، يمكن فهم حالة الانزعاج والغضب التي ظهرت على ردّات الفعل الإسرائيلية على الإعلان عن اتفاق سعودي إيراني، برعاية صينية، لاستئناف العلاقات الدبلوماسية الطبيعية بين البلدين.
عربيًا، استقبل القطاع الأوسع من الجماهير هذا الاتفاق بترحابٍ شديد، وخصوصًا على الساحة الفلسطينية التي دفعت الثمن الأفدح لمرحلةٍ شديدة السوء من الاستقطاب المذهبي الذي أدّى إلى حالةٍ من الجنون عند بعضهم ممن وجدوا في هذا المناخ فرصة لترويج التطبيع مع الاحتلال الصهيوني، بزعم مواجهة الخطر الإيراني.
بحّت الأصوات ونحن نقول مرارًا إن إيران وتركيا جارتان للعرب وجزءٌ أصيل من المنطقة، ربما لديهما طموح قومي، كما للعرب طموحهم كذلك، غير أن من الجنون أن يحوّل أحد أنقرة وطهران عدوّين، ذلك أن العدو هو إسرائيل وكل من يصادقها ويتحالف معها ويقمع شعبه ويقتله من أجلها.
لم يكن هذا الكلام يروق للمتصهينين العرب، وأيضًا لجحافل الطائفية والمذهبية، وجيوشهما الإلكترونية المنتشرة على وسائط التواصل الاجتماعي تمارس فحيحًا مستمرّا.
فيما كان السعوديون والإيرانيون يتباحثون في العاصمة الصينية بشأن اتفاق المصالحة الإقليمية، كان الجنرال عبد الفتاح السيسي يتحدّث في القاهرة كاشفًا عن شراكة بين النظام المصري وحكومة الاحتلال الإسرائيلية في التصدّي لعدوهما المشترك في العام 2011، والذي هو ثورة يناير التي يربط السيسي بينها وبين عصابات الإرهاب في سيناء "تواصلنا مع إسرائيل في 2011 لطلب إدخال قوات إضافية إلى سيناء والسيطرة على الوضع. والحقيقة، الرد كان إيجابي، وتمّ التحرّك بالتنسيق معاهم، وده اللي مستمرّ لحد دلوقتي". هكذا بكل وضوح قالها الرجل في احتفاله بيوم الشهيد، قبل أن يحذّر المصريين مجددًا من العدو الاستراتيجي، الذي هو الثورة على الأوضاع القائمة.
يعيد الاتفاق السعودي الإيراني المفاجئ التأكيد على موات العمل الجماعي العربي، إذ دارت العملية كلها في الصين ومضت ثنائية، بحيث يمكن الزعم إنها تمت من دون علم الدول العربية التي فوجئت بها، وتفرّجت مؤسستهم الجامعة على النتيجة عبر شاشة التلفزة.
قال بيان الخارجية المصرية إن القاهرة تتابع باهتمام وترحب، فيما يقول واقع الحال إن معادلات جديدة تتشكّل في الإقليم معلنة عن تعيين أقطابه والقوى الفاعلة فيه، وعلاقتها بالأقطاب الدولية، حيث يمثل هذا الاتفاق أكبر حضورٍ ديبلوماسي صيني في الأزمات الدولية.
والوضع كذلك، تبدو مصر الرسمية عالقة في التيه تشكو إفلاسًا اقتصاديًا وسياسيًا، معًا، يتّخذ أشكالًا عدة، منها ذلك التصريح العجيب لوزير خارجيتها سامح شكري الذي يقول فيه لإثيوبيا إن عليها أن تتحلّى بالمسؤولية، وإلا سوف تبحث مصر عن مصالحها، وكأن البحث عن المصالح الوطنية والقومية مرهونٌ برغبة الخصوم، إذ من الممكن، كذلك ترجمة هذه اللغة الدبلوماسية البائسة إلى أنه لو تحلت إثيوبيا بالمسؤولية فلن تبحث مصر عن مصلحتها!
إفلاس في الخطاب الخارجي، وإفلاس أشدّ في الخطاب الداخلي، إذ تُستعاد القضايا التافهة ذاتها من أرشيفات الثرثرة الإعلامية، ويدور حولها الاشتباك الفارغ ذاته، ومن ذلك قضية أكل لحوم الحمير التي تم إطلاقها قبل سبع سنوات، ربما عبر المذيع ذاته، بالعبارات ذاتها واشتبك الناس حولها، حتى خرجت دار الإفتاء وقتها لتقول إن ذبح الحمير وأكلها حرام.
قلت وقتها إنهم يملأون معدتك بلحم الحمير، ويحشون رأسك بإعلام الحمير، وينكّدون عليك عيشتك بسياسات الحمير الاقتصادية، وأنت ساكتٌ، فما الذي يمنعهم من محاولة إقناعك بأن الحمير هي الحل لمشكلة اللحوم؟
حتى على مستوى خناقات النخب السياسية التعيسة، لا تجديد في الموضوعات، فتجد، مثلًا، ممدوح حمزة العائد إلى حضن الوطن، ابنًا شريفًا له بصكّ اعتراف سلطاته، يستأنف هجومه الخائب على محمد البرادعي الذي بدأه في العام 2011 من حيث انتهى توفيق عكاشة، مردّدًا الاتهامات الساذجة ذاتها أن البرادعي هو من دمر العراق لصالح الصهيونية والإمبريالية، إلى آخر هذه الترّهات، والعجيب أن يتفاعل البرادعي مع هذا الهراء الأرشيفي، ويرد عليه محاولًا تبرئة ساحته.
قد تفلس الدول اقتصاديًا فتتعثر وتنكفئ، لكنها قد تنتفض، لكنها إذا استسلمت للإفلاسين، الحضاري والقيمي، فهنا المعضلة الأصعب.