24 أكتوبر 2024
أحداث بروكسل وفواتير الأبرياء
يبدو أن علاقة الغرب بالمنطقة العربية مقبلة على تحولٍ يكاد يكون مفصلياً، فلم تعد الوقائع والأحداث محصورة داخل جغرافيا عربية، تنوء تحت وطأة تناقضاتها المذهبية والطائفية، وتخلفها السياسي والاقتصادي والثقافي، بل امتدت تداعياتها إلى عمق أوروبا في شكل أعمالٍ إرهابية تهدد "نمط حياة" معيناً، كلف بلدانها عقوداً طويلة من العمل والصراع الاجتماعي المنظم، على ضوء كل ما راكمته الحداثة الغربية من منجزات مختلفة.
جاءت أحداث بروكسل، أخيراً، لتدفع هذا التحول نحو مرحلةٍ أخرى، يصعب التنبؤ بطبيعتها وسياقاتها في مقبل الأيام، لا سيما أن لا نهايةَ تلوح في الأفق لـ "ملحمة" الخراب والدم العربية، والتي يقف الغرب خلف كثيرٍ من فصولها المأسوية، بسياساته الاستعمارية في المنطقة، وتحكّمه في مقدراتها، ونهب ثرواتها، وإجهاض ثوراتها، ونشر الفوضى والعنف، وإعاقة تحول دولها نحو الديمقراطية باللعب على تناقضاتها المذهبية والطائفية، ودعم قوى الثورة المضادة، والحفاظ على أمن إسرائيل واستقرارها وتفوقها، في مقابل التنكّر التام لحقوق الشعب الفلسطيني. فكانت لهذا الغرب يد في إيصال الثورة السورية السلمية إلى النفق المسدود، ودفعها نحو عسكرةٍ بلا أفق، أفضت إلى احتدام الاستقطاب الإقليمي والدولي حولها، في ظل كلفةٍ بشريةٍ وماديةٍ غير مسبوقة، كما وقفت معظم بلدانه تتفرّج على المشروع الديمقراطي التونسي الفتي، وهو يقارع العنف والإرهاب، ولم تقدم له العون والمساندة الكافيين، حتى لا يتحول إلى كرة ثلجٍ، تتسع دائرتها في اتجاه دمقرطة بلدان عربية أخرى.
في هذا كله، كان تأسيس تنظيم الدولة لحظة فارقةً، بالنظر لما واكبه من اتساع رقعة العنف والفوضى والاحتراب الطائفي، وخلطٍ مريب للأوراق، وتزايد أعداد اللاجئين، في نزيف ثقافيٍّ واجتماعيٍّ لم تشهده المنطقة من قبل. وكان موقف معظم البلدان الغربية بشأن القضاء على التنظيم غير واضح، وهي التي لم تتردّد قبل ذلك، بشكلٍ لا يخلو من مفارقة، في تسخير الأمم المتحدة وتعبئة جيوشها وعتادها الحربي المتطور ضد الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، في حربين مدمرتين، أرجعتا العراق عشرات السنين إلى الوراء. ولذلك، لجأت هذه البلدان إلى احتواء التنظيم وتطويقه، للحد من فعاليته وتمدّده بعد تزايد جرائمه الوحشية في العراق وسورية. لكن، من دون الذهاب إلى حد التدخل العسكري الحاسم للقضاء عليه، لأن من شأن ذلك إعاقة مخططاتها الاستراتيجية في المنطقة على الصعد كافة.
غير أن صناع القرار في الغرب لم ينتبهوا إلى أن هناك جاليات عربية ومسلمة واسعة تعيش في مختلف بلدان أوروبا، وسيشكل أبناؤها الذين يعانون التهميش والإقصاء الممنهجين والتوتر بين هويتهم الدينية والوطنية، أحد الروافد الأساسية للتنظيم، وعصبه الرئيسي، في تسويق خطابه التكفيري والجهادي. صحيح أن "داعش" أحد العناوين البارزة لفشل النخب العربية الحاكمة في بلورة مشروع وطني، ينتصر للديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان والتوزيع العادل للسلطة والثروة، كما لا يمكن إغفال صلته ببعض جذور العنف في البنيات الثقافية والفكرية لمجتمعاتنا، لكن ذلك كله لا ينفي مسؤولية الغرب عن مساحةٍ واسعةٍ مما يحدث في المنطقة من خلال سياساته، ولعبه على التناقضات المختلفة، وخلطه الأوراق. ولذلك، فإسهامه في تأسيس داعش، بشكل أو بآخر، أحد التمظهرات الدالة لهذه المسؤولية.
الآن، ينقلب السحر على الساحر، وتَفتح أحداث بروكسل أبواباً أخرى أمام اليمين الأوروبي المتطرّف، لنشر طروحاته وأفكاره العنصرية. وللأسف، يدفع الأبرياء هناك جزءاً باهظاً من فاتورةٍ قد لا يكونون معنيين بحساباتها الاقتصادية والاستراتيجية، لكنه يبدو يسيراً إذا ما قورن بما تدفعه يومياً شعوب فلسطين والعراق وسورية واليمن وليبيا، تدفعه من دماء أبنائها وأمنهم وثرواتهم ومستقبلهم. في ضوء ذلك، يبدو أن المقاربة الأمنية والاستخباراتية التي تنتهجها معظم بلدان أوروبا في حربها على الإرهاب، لن تتجاوز نجاعتها منتصف الطريق، أما النصف المتبقي، فعليها أن تتلمسّه عبر مراجعة نظرتها للمنطقة العربية، عبر الانحياز لخيارات الشعوب، في تطلعها نحو الديمقراطية والحرية والكرامة والقطع مع الماضي، وإعادة النظر في سياسات الإدماج إزاء الجاليات العربية والمسلمة، بالعمل على رأب التصدعات الثقافية والهوياتية التي تتسع في أوساطها.
نشعر بالغضب والأسى لسقوط ضحايا أبرياء في عواصم أوروبا ومدنها، جرّاء هذا الإرهاب الأعمى، غير أن هذا الشعور يتضاعف، حين نرى كيف يتعاطى صناعُ القرار ووسائل الإعلام وقطاع من الرأي العام الأوروبي بفتورٍ ولااكتراثٍ دالين، مع إرهابٍ متوحش ودموي، يسقط ضحاياه على الجانب الآخر من المتوسط.
جاءت أحداث بروكسل، أخيراً، لتدفع هذا التحول نحو مرحلةٍ أخرى، يصعب التنبؤ بطبيعتها وسياقاتها في مقبل الأيام، لا سيما أن لا نهايةَ تلوح في الأفق لـ "ملحمة" الخراب والدم العربية، والتي يقف الغرب خلف كثيرٍ من فصولها المأسوية، بسياساته الاستعمارية في المنطقة، وتحكّمه في مقدراتها، ونهب ثرواتها، وإجهاض ثوراتها، ونشر الفوضى والعنف، وإعاقة تحول دولها نحو الديمقراطية باللعب على تناقضاتها المذهبية والطائفية، ودعم قوى الثورة المضادة، والحفاظ على أمن إسرائيل واستقرارها وتفوقها، في مقابل التنكّر التام لحقوق الشعب الفلسطيني. فكانت لهذا الغرب يد في إيصال الثورة السورية السلمية إلى النفق المسدود، ودفعها نحو عسكرةٍ بلا أفق، أفضت إلى احتدام الاستقطاب الإقليمي والدولي حولها، في ظل كلفةٍ بشريةٍ وماديةٍ غير مسبوقة، كما وقفت معظم بلدانه تتفرّج على المشروع الديمقراطي التونسي الفتي، وهو يقارع العنف والإرهاب، ولم تقدم له العون والمساندة الكافيين، حتى لا يتحول إلى كرة ثلجٍ، تتسع دائرتها في اتجاه دمقرطة بلدان عربية أخرى.
في هذا كله، كان تأسيس تنظيم الدولة لحظة فارقةً، بالنظر لما واكبه من اتساع رقعة العنف والفوضى والاحتراب الطائفي، وخلطٍ مريب للأوراق، وتزايد أعداد اللاجئين، في نزيف ثقافيٍّ واجتماعيٍّ لم تشهده المنطقة من قبل. وكان موقف معظم البلدان الغربية بشأن القضاء على التنظيم غير واضح، وهي التي لم تتردّد قبل ذلك، بشكلٍ لا يخلو من مفارقة، في تسخير الأمم المتحدة وتعبئة جيوشها وعتادها الحربي المتطور ضد الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، في حربين مدمرتين، أرجعتا العراق عشرات السنين إلى الوراء. ولذلك، لجأت هذه البلدان إلى احتواء التنظيم وتطويقه، للحد من فعاليته وتمدّده بعد تزايد جرائمه الوحشية في العراق وسورية. لكن، من دون الذهاب إلى حد التدخل العسكري الحاسم للقضاء عليه، لأن من شأن ذلك إعاقة مخططاتها الاستراتيجية في المنطقة على الصعد كافة.
غير أن صناع القرار في الغرب لم ينتبهوا إلى أن هناك جاليات عربية ومسلمة واسعة تعيش في مختلف بلدان أوروبا، وسيشكل أبناؤها الذين يعانون التهميش والإقصاء الممنهجين والتوتر بين هويتهم الدينية والوطنية، أحد الروافد الأساسية للتنظيم، وعصبه الرئيسي، في تسويق خطابه التكفيري والجهادي. صحيح أن "داعش" أحد العناوين البارزة لفشل النخب العربية الحاكمة في بلورة مشروع وطني، ينتصر للديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان والتوزيع العادل للسلطة والثروة، كما لا يمكن إغفال صلته ببعض جذور العنف في البنيات الثقافية والفكرية لمجتمعاتنا، لكن ذلك كله لا ينفي مسؤولية الغرب عن مساحةٍ واسعةٍ مما يحدث في المنطقة من خلال سياساته، ولعبه على التناقضات المختلفة، وخلطه الأوراق. ولذلك، فإسهامه في تأسيس داعش، بشكل أو بآخر، أحد التمظهرات الدالة لهذه المسؤولية.
الآن، ينقلب السحر على الساحر، وتَفتح أحداث بروكسل أبواباً أخرى أمام اليمين الأوروبي المتطرّف، لنشر طروحاته وأفكاره العنصرية. وللأسف، يدفع الأبرياء هناك جزءاً باهظاً من فاتورةٍ قد لا يكونون معنيين بحساباتها الاقتصادية والاستراتيجية، لكنه يبدو يسيراً إذا ما قورن بما تدفعه يومياً شعوب فلسطين والعراق وسورية واليمن وليبيا، تدفعه من دماء أبنائها وأمنهم وثرواتهم ومستقبلهم. في ضوء ذلك، يبدو أن المقاربة الأمنية والاستخباراتية التي تنتهجها معظم بلدان أوروبا في حربها على الإرهاب، لن تتجاوز نجاعتها منتصف الطريق، أما النصف المتبقي، فعليها أن تتلمسّه عبر مراجعة نظرتها للمنطقة العربية، عبر الانحياز لخيارات الشعوب، في تطلعها نحو الديمقراطية والحرية والكرامة والقطع مع الماضي، وإعادة النظر في سياسات الإدماج إزاء الجاليات العربية والمسلمة، بالعمل على رأب التصدعات الثقافية والهوياتية التي تتسع في أوساطها.
نشعر بالغضب والأسى لسقوط ضحايا أبرياء في عواصم أوروبا ومدنها، جرّاء هذا الإرهاب الأعمى، غير أن هذا الشعور يتضاعف، حين نرى كيف يتعاطى صناعُ القرار ووسائل الإعلام وقطاع من الرأي العام الأوروبي بفتورٍ ولااكتراثٍ دالين، مع إرهابٍ متوحش ودموي، يسقط ضحاياه على الجانب الآخر من المتوسط.