أبعد من مأساة أطفال اللوكيميا في اليمن
هناك، في اليمن، قتلٌ لا يُرى، لا يُدان ولا يحاكَم مجرموه، إذ يخضع لانتقائية تكييف الضحايا، كونهم خارج التصنيف التقليدي لجرائم الحرب الذي يحدّد آلة القتل ومرتكبيه، ومن ثم يجري تكييف هذه الجرائم أخطاءً واردة، وذلك للتحايل على تحقيق العدالة بحق المجرمين، إلى جانب نجاح أطراف الصراع في توظيف حالة الحرب، وتسييس جرائم خصومها للتنصّل من مسؤوليتهم الأخلاقية والإنسانية، ومن ثم الإفلات من العقاب. ومع أن بنُية هذه الجرائم وأسبابها تغذّيها عوامل كثيرة من بيئة الحرب وتداعيات سقوط مؤسّسات الدولة، وانعكاساتها على حياة المواطنين، فإن سلطات الحرب تتحمّل المسؤولية المباشرة عن هذه الجرائم، سواء لطريقة إدارتها سلطتها أو للمؤسسات الخاضعة لها، ومن ثم تصبح في هذه الحالة جرائم سلطة. وإذا كانت سياسة الإفقار وتجويع اليمنيين وإدارة الأزمات الإنسانية تعد قصدية في قتل اليمنيين، فإن مأسسة القتل عبر تحويل المواطنين إلى فئران تجارب يكشف عن سلوك إجرامي ممنهج، وقصدية في إزهاق أرواح الأبرياء.
توفي في مستشفى الكويت بالعاصمة صنعاء 13 طفلاً من مرضى سرطان الدم، إثر جرعة كيماوية منتهية الصلاحية. ومع تضارب المعلومات حيال الإحصائية النهائية للضحايا، حيث أعلنت منظمة "الأورو-متوسطي" وفاة 18 طفلاً، فإن هناك مخاوف من أن يكون عدد الضحايا أكبر من العدد المعلن، خصوصا أن إجمالي عدد الأطفال في وحدة العلاج الكيماوي 50 طفلاً، إضافة إلى مخاوف من توسّع نطاق ضحايا الدواء وتحوله إلى وباء، وذلك بعد تأكيد وزارة الصحة التابعة للحكومة اليمنية المعترف بها إصابة طفلين في مدينة سيئون، أي في منطقة جغرافية خارج سلطة جماعة الحوثي. وفي حين يكشف تعاطي سلطة الجماعة مع قضية أطفال "اللوكيميا" ليس فقط تنصّلها من مسؤولياتها بوصفها سلطة أمر واقع في حماية أرواح المواطنين، وإنما محاولة تستّرها على المجرمين، حيث تواطأت في إخفاء الجريمة، فبعد ما يقارب شهر من الحادثة التي يرجّح أنها وقعت في سبتمبر/ أيلول الماضي، اعترفت الجماعة بوفاة عشرة أطفال بجرعة كيماوية مُهرّبة محمّلة التحالف العربي، بقيادة السعودية، المسؤولية، وذلك بإعاقة دخول العلاجات المنقذة للحياة جرّاء حصاره اليمن، وبعيداً عن الجرائم الإنسانية المترتبة على حصار التحالف ومسؤوليته المباشرة في وفاة اليمنيين، فإن مأساة أطفال "اللوكيميا" تختلف، من حيث أسبابها، عن جرائم حصار التحالف، بحيث تشكّل مثالاً نموذجياً لمأسسة القتل من سلطات الأمر الواقع، ومن ثم تتعدّد مستويات الإجرام، من إدارة الجماعة سلطتها، بما في ذلك المؤسّسات الصحية في المناطق الخاضعة لها، إلى تجارة الأدوية والشبكات المسيطرة عليها، بما في ذلك العلاجات المنقذة للحياة، وكذلك الهيئات الرقابية، إلى جانب أن إدارة الجماعة قضية مقتل أطفال اللوكيميا يؤكّد حرصها، وبشتّى الطرق، على حماية المتورّطين، وذلك بتسويقها أن سبب الوفاة جرّاء الدواء المهرب، إلا أن ما أكّدته الوثائق أن الدواء منتهي الصلاحية وليس مهرّبا، ومن ثم فإن حرص سلطة الجماعة على طي الجريمة، سواء بإحالة بعض المحسوبين عليها إلى النيابة العامة بتهمة قضايا فساد أو استمالة ذوي الضحايا بتعويض بعضهم لا يعفيها من مسؤوليتها المباشرة في الجريمة، كسلطة أمر واقع، تسبّبت، كغيرها من سلطات الحرب بتدمير النظام الصحي، وقطاع الأدوية والاتّجار به، ومن ثم تعريض حياة المواطنين للخطر.
من القطاع الصحي إلى قطاع الأدوية، تتشابك طرق سلطات الحرب وآلياتها وإرادتها في قتل اليمنيين
من نواحٍ عديدة، كان لسقوط الدولة المركزية نتائج كارثية على حياة اليمنيين، والتي يدفع ثمنها البسطاء، إذ أفضى تدمير سلطات الحرب مؤسّسات الدولة، وخصوصا الخدمية، إلى حرمان ملايين من المواطنين من خدماتها، وخصوصا الطبقات الوسطى والفقيرة. ويعكس واقع المؤسسات الصحية في ظل الحرب، الحكومية والخاصة، فداحة ما يواجه اليمنيون، حيث تفتقر هذه المؤسّسات خدميا وطبياً إلى أبسط الإمكانات التي تؤهلها لعلاج المرضى. وإلى جانب غياب أي سياسات اقتصادية لسلطات الحرب لتأهيل هذه المؤسّسات، فإنها عملت على انهيار ما تبقى من النظام الصحي، سواء بنهبها وخصخصتها المستشفيات الحكومية، أو بانخراطها في إدارة الخدمات الطبية، وذلك بإنشائها مستشفيات خاصة تابعة لها، والتي خضعت لوسائلها الربحية مقابل تدنّي مستوى خدماتها، إلى جانب مصادرة سلطات الحرب الأموال المخصّصة للعلاجات المنقذة للحياة، وإخضاع المرضى لوسائلها الإجبارية في العلاج التي قد تكون موتا محققا. ومن ثم، فإن تأثير انهيار القطاع الصحي كان له انعكاسه الأخطر على حياة اليمنيين، لكن الأكثر ضررا كانت الطبقات الفقيرة التي تعتمد على المستشفيات الحكومية في علاجها، ومنهم مرضى الحالات المستعصية. وإذا كان انهيار القطاع الصحي، وسياسة سلطات الحرب قد عرّضت حياة ملايين اليمنيين للخطر، فإن حصولهم على الدواء أكثر كلفةً من الحياة، فإلى جانب ارتفاع أسعاره، نتيجة تدخل سلطات الحرب في شبكات تأمين الدواء، ودخولها وسيطا من خلال شبكاتها في تجارة الأدوية، فإنه تحوّل، وفق سياسة الاتجار بالحياة، إلى سلعة غير آمنة وتسبب بوفاة المرضى، حيث أصبحت تجارة الأدوية إحدى أهم القنوات الرئيسية لاقتصاد الحرب المتنامي، اقتصاد التهريب الذي تديره سلطات الحرب لتنمية عائداتها الربحية، والتي ازدهرت في سنوات الحرب.
لا وسيلة لإنقاذ الحياة، لذلك مات أطفال اللوكيميا، وسيموت أبرياء آخرون
من القطاع الصحي إلى قطاع الأدوية، تتشابك طرق سلطات الحرب وآلياتها وإرادتها في قتل اليمنيين، إذ تتشابه وسائلها في تحويل ما تبقى من وسائل الحياة الممكنة إلى تجارة. وإذا كانت سلطة جماعة الحوثي قد سيطرت على القطاع الصحي في المناطق الخاضعة لها، بما في ذلك تركيزها على استثمار مناقصات شراء الأدوية والمستلزمات الصحية في المستشفيات الحكومية لصالح شبكاتها، بما في ذلك مصادرتها الأموال المخصّصة للعلاجات المنقذة للحياة، فإن سياستها التقليدية في إحكام سيطرتها على القطاعات التجارية، ومنها قطاع الأدوية، كانت لها تداعيات مأساوية على حياة المرضى، ففي حين تسبّبت الحرب بمغادرة أغلب شركات الأدوية الكبرى من اليمن، من خلال وكلائها، لصعوبة تأمينها الأدوية وكلفة تخزينها، خصوصا العلاجات المنقذة للحياة التي تحتاج لمعايير الجودة في التخزين، ما تسبب لا في ارتفاع أسعارها فقط، بل في انعدامها أيضا، فإن سلطة الجماعة على سد هذا الفراغ، وذلك بإدارة سوق الأدوية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، من خلال شبكاتها من التجار، بما يضمن لها تحقيق أرباح ضخمة، مقابل تضييقها على من تبقى من وكلاء شركات الأدوية الكبرى العالمية بإخضاع الأدوية لضرائب جمركية مرتفعة في منافذها البرّية، ومن ثم عملت الشبكات المحلية من الموردين التابعين للجماعة، ومن بينهم مسؤولون في القطاع الصحي، على توريد أدوية بديلة للأصناف الدوائية الأصلية من الهند وغيرها من الدول، إلا أنها ذات جودة متدنية، وإنْ تتجاوز أسعارها الأصناف الأصلية، إلى جانب توريد الموردين التابعين للجماعة أدوية من شركات تابعة لحلفائها الإقليميين، إيران وسورية، وافتقار أغلبها لشروط الجودة ومعاييرها، إضافة إلى استقدام أصناف مزوّرة للأصناف الدوائية البديلة، ومن ثم أدّت هذه السياسة العمياء إلى إغراق سوق الأدوية بأدوية تفتقر لمعايير الجودة، بيد أن الأخطر أن الجماعة ومن ضمن سياستها في احتكار سوق الأدوية عملت على استكمال إحلال تجار تابعين لها كمورّدين محليين معتمدين للأدوية، ومن ثم تولي عملية توريدها وتوزيعها في أسواقها، سواء بطرق قانونية أو عن طريق التهريب، إلا أن ضمان الربحية السريعة جعل من عاملين غير مؤهلين في قطاع الأدوية يتحايلون على شروط تأمينها، وذلك لإعفاء بضاعتهم من كلفة تخزينها، ومن ثم تصل الأدوية، في أغلب الأحيان، منتهية الصلاحية، كما أن دخول السلطة، من خلال قيادتها، في تجارة الأدوية، جعل من التهريب الخيار الأمثل بالنسبة لهم وللمورّدين الموالين لهم لإدرارها أموالا ضخمة، وإعفائها من أي ضرائب في المنافذ البرية، مقابل تعطيل المؤسسات الرقابية على قطاع الأدوية، وهو ما عرّض حياة المستهلك لخطر الموت، بحيث أصبحت الجماعة السلطة والرقيب والتاجر أيضا، وأصبحت الهيئة العليا للأدوية التي عملت الجماعة على تعيين قيادتها إلى غطاء لتجّار الأدوية. وفي حالة الأدوية المنقذة للحياة، فإن لهذه السياسة الإجرامية عواقب وخيمة على حياة المرضى، حتى وإن كانت العلاجات غير مهرّبة، كما في حالة الدواء المنتهي الصلاحية الذي تسبّب بوفاة الأطفال في مستشفى الكويت، حيث دخل الدواء بشكل رسمي إلى المناطق الخاضعة للجماعة، وبتصريح من الهيئة العليا للأدوية، لصالح تاجر معروف، ومقرّب من وزير الصحة التابع للجماعة، والذي يتولى، إلى جانب سماسرة آخرين، يحظون بحماية من السلطات، عملية توريد الأدوية، وتهريبها.
للقتل في اليمن طرق كثيرة، من آلة الحرب اليومية التي يُقتل جرّاءها اليمنيون إلى تجويعهم وحرمانهم من وسائل الحياة الممكنة، ليصبح الدواء في يمن الحرب وسلطاتها الإجرامية طريقا آخر إلى الموت، لا وسيلة لإنقاذ الحياة، لذلك مات أطفال اللوكيميا، وسيموت أبرياء آخرون، فيما يزدهر هوامير الموت والتهريب وسلطات القتل والإبادة، لأن الضحايا لا صوت لهم، والمجرمون، كالعادة لا يُحاسبون.