أبعد من طارق بيطار
تقول السلطة اللبنانية الحاكمة، بوضوح، إنها لا تريد تحقيقاً جدّياً في انفجار مرفأ بيروت. ترغب فقط بتحقيقٍ هزليٍّ يخلُص إلى تحميل المسؤوليات لموظفين من المرتبة العاشرة، أو تحويل قضية الوزراء السابقين (النواب الحاليين)، المتهمين في القضية، إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الوزراء والرؤساء لطمسها. تدمير نصف المدينة، مقتل مئات وجرح آلاف ليس مسألة مهمة. معرفة من وراء استيراد 2700 طن من نترات الأمونيوم إلى لبنان وإبقائها سنواتٍ، حتى سرق منها ما سرق، ثم انفجرت، غير ضرورية. التوصل إلى حقيقة من نَصَح رئيس الوزراء في ذلك الحين، حسّان دياب، بإلغاء زيارة المرفأ لتفقّد النترات ليس أولوية.
المهم أن لا يتجرّأ أحد على توجيه أصابع الاتهام إلى مسؤول سياسي. أمرٌ كهذا لا يمكن أن يمرّ، حتى لو تطلب "قبْع" القاضي الذي تجرّأ على ذلك. سواء من قام بذلك اسمه فادي صوان الذي أطيح بتهمة "الارتياب المشروع" السخيفة، لأن منزله تضرّر في الانفجار، أو أي اسم آخر قد يرسي عليه الدور إذا ما نجحت الضغوط لإقالة طارق بيطار الذي كلما تقدّم خطوة في التحقيق ترفع دعوات إلى كفّ يده مؤقتاً. فكل من يتوصل إلى نتيجة أن هناك مسؤولية في الوصول إلى الانفجار تقع على عاتق وزراء ومسؤولين أمنيين وعسكريين ممن علموا بموضوع نترات الأمونيوم لن يكون مصيرُه مغايراً، سيتّهم بالتسييس والانتقائية. ولا مانع من حرق الأخضر واليابس للحيلولة دون مثول أيٍّ من المتورّطين أمامه، حتى لو من أجل الاستماع لهم فقط.
هذا النظام المكوّن من مجموعة من أمراء الحرب الأهلية، ومن نما على هامشهم، واضح في خياراته. نفعل ما نريد ومحاسبتنا غير ممكنة. لا قيمة لدستور أو فصل سلطات أو أي أمرٍ ذي صلةٍ بقانون وحقوق وواجبات. ولهذه المنظومة ما يكفي من الأدوات لتحقيق ذلك، سواء إعلامية تشيطن وتخوّن وتلصق تهمة العمالة بمن تريد وتهدر الدماء، أو سياسية كالتهديد بفرط الحكومة التي كانوا يتغنّون حتى الأمس بأنها حكومة تكنوقراط وليست سياسية. ولا مانع حتى من التلويح بـ"7 أيار" جديد، واللعب بورقة الشارع أفضل ما تجيده، على قاعدة أن "كل الاحتمالات مفتوحة"، حتى يتم استبداله "بطريقةٍ أو بأخرى"، كما قال الوزير السابق، النائب علي حسن خليل، عقب صدور مذكّرة توقيف بحقه لرفضه المثول أمام بيطار.
تمتهن هذه المنظومة، التي يتصدّرها حزب الله، بصفته الحامي الأول لها والمستفيد الأكبر منها، إلقاء التهم جزافاً والتعميم والتهويل، وتحديد المسموح والممنوع والمطلوب، حتى لو كان مخالفاً للقانون الذي ترى أنه موضوع لخدمتها وتطويعه تبعاً لما تريده فقط. ونجحت، في كل مرّة، اختارت فيه هذا الأسلوب. حتى أنها باتت تكرّره بحذافيره في قضية انفجار مرفأ بيروت. وما حصل مع انتفاضة تشرين التي تحلّ ذكراها الثانية بعد غد الأحد لا يزال ماثلاً.
النقطة المركزية لهذه المنظومة أنها لن تسمح بفقدان السيطرة على أي جهاز في هذه الدولة، سياسياً أو إدارياً أو أمنياً أو قضائياً. ولن تسمح بكل ما يمكن أن يخصم من نفوذها أو تمرّد عليها. هي تدرك حجم الغضب منها، لكنها تعلم أيضاً قدرة الترهيب الذي تمارسه ومفعوله، ليترك بيطار يواجه مصيره وحده تقريباً بعدما رفض الرضوخ لكل أنواع الضغوط والتهديد.
وحدهم أهالي ضحايا انفجار المرفأ لا يزالون صامدين. تعلو تحرّكاتهم وتخفت تبعاً للظروف، لكن صرختهم نفسها لا تتبدّل. الرغبة في معرفة الحقيقة وتحقيق العدالة، فلا شيء إضافيا يمكن أن تخسره العائلات.