"انتصارات" بوتين

24 يوليو 2022
+ الخط -

بعد مرور خمسة أشهر على بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، وعلى الرغم من الخسائر الفادحة التي منيت بها القوات الروسية، حيث أشارت وكالات الاستخبارات الغربية إلى مقتل ما يزيد عن 15 ألف عسكري وتدمير آلاف المدرعات وعشرات الطائرات والمروحيات، وعلى الرغم من العقوبات الاقتصادية شديدة الوطء المفروضة على الدولة الغازية من المجتمع الدولي، وعلى الرغم من آلاف ساعات البثّ الغربية التي تشرح لرأيها العام مدى تسلطية قيصر الكرملين ودموية أعماله الحربية، من الشيشان مرورا بجورجيا وعبوراً مستداماً في سورية ووصولاً، أخيراً وليس آخراً، الى أوكرانيا، إلا أن القيادة الروسية المحصورة بشخص بوتين نفسه ما فتئت تسجّل انتصارات مهمة، ربما ستساهم في تغيير مسارات تطوّرات المشهد الدولي في وقت قريب. وتتوزّع هذه الانتصارات على عدة سلال عسكرية، وإعلامية، واقتصادية، وسياسية.

عسكريا، ومع الحجم الهائل للخسائر البشرية لدى الجيش الروسي، إلا أن نظام الكرملين، كعادة الأنظمة الديكتاتورية، لا يعطي هذا البعد الإنساني أهمية تُذكر. فمن العادي إذاً ألا يأخذ المتحكّم بحيوات المواطنين ردود فعل الأمهات الثكالى بالحسبان، فكما تحتفل ديكتاتوريات العالم الثالث بـ"الشهداء" من جيوشها الذين يموتون للدفاع عن كرسي الحاكم أو مصالحه الذاتية، فالحكومة الروسية تعتبر قتلاها في أوكرانيا أبطالاً ما داموا يموتون ويحاربون من يريد حاكمهم لتنفيذ أحلامه الشخصية التي يُسقطها على آمال شعبٍ بأكمله. في المقابل، وعلى الرغم من أن الجيش الأوكراني والوحدات المقاتلة الرديفة له قد نجحت في إظهار قدرة كبيرة على المقاومة مع تسليح غربي متطوّر، إلا أن الروس يعتمدون على الاستفادة من عامل الوقت. استمرار القتال أشهرا أخرى ينعكس إيجابياً على موسكو التي لن يضيرها خسارة آلاف الدبابات والمدرّعات لأن لديها منها عشرات الآلاف، في حين تمتلك أوكرانيا ما لا يتجاوز ثلاثة آلاف. وينسحب هذا المنطق الحسابي على بقية الأسلحة التقليدية، وحتى على القدرات البشرية. كما أن وقع موت الأوكرانيين لا يمكن للقيادة في كييف أن تتعامل معه بالدرجة نفسها من الاستخفاف التي يتعامل من خلالها الروس مع موتاهم. والاعتماد على التسليح الغربي المتدفق حالياً لن يكفي طويلاً، لأن المخزون الكمّي في الغرب محدود.

تجري رياح السياسات الداخلية الغربية كما تشتهي سفن موسكو

إعلامياً، تمكّنت وسائل إعلام روسية أو تابعة، تُضخّ فيها أموالٌ طائلة، من فرض سرديتها عسكرياً وسياسياً. وصار من الواضح أن لدى موسكو قدرة للسيطرة على جزءٍ كبير من الرأي العام بإعلامٍ على الطريقة الغوبلزية، التي تعتمد على الكذب الصريح. من خلال هذا الإعلام، تمكّنت الدعاية من اختراق حصون العقل والمنطق، ليس في روسيا وحدها، وإنما في مجتمعات كثيرة خارج البلاد. ومن يتابع خطاب إعلام دول الجنوب، وخصوصاً في أفريقيا والمنطقة العربية، يرى مدى تأثير الدعاية الروسية، فهي تطوّر نفوذها التخريبي في عقول مجموعات كبرى من شعوب هذا العالم الثالث، المتطلّعة إلى وضع حد للهيمنة الغربية، على حد اعتقادها. وهذا ما يدفعها، بالتالي، إلى رؤية أنياب الليث السيبيري مصابيح ساطعة تُضيئ درب تحرّرها المنشود، فالجيش الروسي يُحارب في أوكرانيا لاجتثاث "النازيين الجدد"، كما هو في سورية لاجتثاث "الإرهاب".

اقتصادياً، تتعامل الأنظمة التسلطية مع جوع شعبها كما تتعامل مع موته، أي باستخفاف شديد. والعقوبات القاسية المفروضة منذ سنوات، والتي تعزّزت مع غزو أوكرانيا، لم تدفع القيادة السياسية إلى تعديل مواقفها، بل على العكس، ما دام الأوليغارشيون غير متأثرين بشكل مباشر بها. كما أن روسيا استطاعت، وبمساعدة بعض الدول الصغيرة النشيطة في غسيل الأموال، بالالتفاف على محظوراتٍ كثيرة. بالمقابل، يتعرّض الاقتصاد العالمي إلى عواقب جمّة نتيجة انخفاض تزويد روسيا العالم "الحر" بالطاقة وتأثّر أسواق المواد الغذائية بفداحة الوضع العسكري القائم الذي يفرض رفع الميزانيات الدفاعية والإنفاق على التسلّح.

انتصارات التسلطيين على شعوبهم وشعوب غيرهم لا يمكن إيقافها إلا عبر تغيّر ديمقراطي حقيقي

سياسياً، تجري رياح السياسات الداخلية الغربية كما تشتهي سفن موسكو. فواشنطن، تتخبّط سياساتها من جهة بين تصريحات الرئيس جون بايدن العشوائية والتي تحمل استعراضا لعضلات هرمة عوضاً عن أن تحمل تصوّرات سياسية واقعية. ومن جهة أخرى، في سعي قديمٍ/ جديد لتجنّب أي اصطدام فعلي مع طموحات الكرملين، اعتقاداً بأن صاحبه هو الذي سيسهر على خرابه. أما أوروبياً، فالإجماع الذي تغنّى به الفرنسيون والألمان، وتحقق عبر تصريحات الاتحاد الأوروبي الصارمة، لم يجد انعكاساته على أرض الواقع، فعدد من عواصم الاتحاد الأوروبي ما زال يراهن على علاقاته الاستراتيجية مع موسكو، كما اليمينيون المتطرّفون في هنغاريا وزعيمهم فيكتور أوربان. وهناك تقدّم ملحوظ ليمينٍ متطرّف فاشي في كل من إسبانيا وفرنسا وإيطاليا على الأقل، ما فتئ بوتين يدعمه سياسياً ومالياً إلى جانب يسارٍ متشدّد ما زال رموزه يعتقدون أن موسكو تقود مواجهة المشروع الإمبريالي.

بالأمس، استقالت الحكومة الإيطالية التي يرأسها اقتصادي مشهود له بالكفاءة وبالانتماء الصارم إلى المشروع الأوروبي، وذلك بفعل تحالف اليمين الوسط مع فاشيين جدد. وبعد حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات تشريعية مسبقة، تمنح استطلاعات الرأي أصدقاء موسكو كبير الحظوظ في الوصول إلى سدة الحكم. اليمين الفاشي القريب من موسكو يُعزّز مواقعه في أوروبا الغربية، ويدفع معتدليها المعادين للغزو الروسي إلى الالتفات إلى شجونهم المحلية، والابتعاد بالتالي عن خط مواجهة موسكو.

انتصارات التسلطيين على شعوبهم وشعوب غيرهم لا يمكن إيقافها إلا عبر تغيّر ديمقراطي حقيقي، وهو بالنسبة للشعب الروسي سرابٌ.