"الجزائر الجديدة" بعد الاستفتاء على الدستور
بعد تصديق البرلمان الجزائري على مشروع تعديل الدستور، ووسط قيود في إطار إجراءات وقف انتشار فيروس كورونا، وفي غياب الرئيس عبد المجيد تبون الموجود في مشفى في ألمانيا، أدلى أقل من واحد من كل أربعة ناخبين جزائريين مسجلين بأصواتهم في استفتاءٍ الأحد الماضي (1 نوفمبر/ تشرين الثاني)، مصوّتين على تعديلاتٍ دستورية اقترحها الرئيس تبون، ومن خلفه المؤسسة العسكرية، لتكون تلك النسبة أقل نسبة مشاركة على الإطلاق في تاريخ الجزائر ما بعد الاستقلال، حيث استجاب 77% من الناخبين لدعوة مقاطعة التصويت التي وجهها قادة الحركة الاحتجاجية الشعبية (الحراك). مع ذلك، تم تمرير التعديلات الدستورية، بعد أن صوّت 66.8% من الناخبين (ما يعادل 3.3 مليون صوت من مجموع 5.6 ملايين) بـ "نعم"، وفي ظل عدم وجود قانون انتخابي يحدّد نسبة دنيا للمشاركة في الاستفتاء. ولكن في غياب توافق وطني حوله، يبقى الدستور الجديد دستور أزمة، كما كانت حال معظم الدساتير الجزائرية السابقة منذ الاستقلال.
خلال حقبة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ( 20 عامًا)، تم تصميم التعديلات الدستورية وفقًا لمتطلبات الزعيم الذي أطاحته الحركة الاحتجاجية العنيفة في 2 إبريل/ نيسان من العام الماضي، ليصبح أحمد قايد صالح، نائب وزير الدفاع ورئيس هيئة أركان الجيش (توفي في 23 ديسمبر/ كانون الأول 2019)، الرجل الأقوى في الجزائر، الذي رفض مطالب "الحراك" بالدخول في فترة انتقالية بوصفها حلا غير دستوري، وأكد على أهمية الإسراع بإجراء انتخاباتٍ رئاسيةٍ للتخلص من عناصر النظام القديم. وبينما نجح "الحراك" في إجبار النظام على إلغاء الانتخابات المزمع إجراؤها في أبريل/ نيسان ويوليو/ تموز، استطاع صالح فرض موعد جديد في 12 ديسمبر/ كانون الأول، وسعى إلى تعيين رئيس موالٍ له لتوفير واجهةٍ مدنية للجيش للحفاظ على النظام نفسه. ودعا الجزائريين إلى المشاركة المكثفة في الانتخابات، كونها "انطلاقة جديدة في مسار بناء الدولة الجزائرية الجديدة". اعترض الجزائريون على تلك الانتخابات، فلم تتعد نسبة المشاركة فيها 39.93%، مع تشكيكٍ واسع في نزاهتها. وأعلن عبد المجيد تبون، المرشح الفائز في تلك الانتخابات، إطلاق عملية إصلاح دستوري، وعرض الحوار مع المتظاهرين، وشرع في عملية مشاوراتٍ لتغيير الدستور، متعهدا بوضع أسس لـ "الجزائر الجديدة"، وسعى إلى كسب مزيد من الشرعية عبر صناديق الاقتراع.
المشاركة الشعبية المتدنية قوّضت استراتيجية السلطة الرامية إلى طي صفحة الاضطرابات السياسية، وخنق الحراك الجماهيري الذي استمر أكثر من عام
كان في مقدمة المطالب المنهجية للحراك الجزائري، الذي اندلع في 22 فبراير/ شباط من العام الماضي، استبدال النخبة الحاكمة التي هيمنت على السلطة، ومؤسسات الدولة، منذ الاستقلال العام 1963، وإنهاء الفساد، وإجبار الجيش على الانسحاب من السياسة، قبل أن تفرض جائحة كورونا على المحتجّين ترك الشوارع. لم تتحقق مطالبهم إلا جزئيا. وعلى الرغم من أن الجيش بدأ يلعب دورا أصغر في عهد تبون، إلا أنه لا يزال أقوى مؤسسة في البلاد، وتتحكم في الفضاء العام، وقد منحه الدستور المعدّل صلاحيات للتدخل خارج الحدود الجزائرية، بما يلبي الهواجس الأمنية لجنرالات الجيش، في ظل حالة عدم الاستقرار ما وراء الحدود، سيما في ليبيا ومالي. ويبدو مزيد من الجزائريين يقتنعون اليوم أنه لا رغبة حقيقية لدى تلك المؤسسة لإجراء تغييرات في المرحلة الراهنة، بل تماطل من أجل تغيير تدريجي يمتد سنوات تكفي لتهرّب أفرادها من أي محاكماتٍ بتهم الفساد، أو أخرى تدين انتهاكاتهم حقوق الإنسان خلال الحرب الأهلية العام 1991.
قادة "الحراك" والنشطاء ذوو التوجهات الليبرالية رفضوا التعديلات الدستورية التي وجدوها لا تمضي في إعادة هيكلة النظام السياسي
تمّت عملية صياغة الدستور من السلطة الحاكمة بعد إقصاء المعارضة من المشاورات، وحثّ كل من الجيش والحكومة الجزائريين على التصويت بنعم لصالح التعديلات في الدستور الجديد، والتي تم تقديمها بوصفها طيا لصفحة الممارسات القديمة في إدارة الشأن العام، لصالح مؤسسات وأساليب جديدة تمارس المسؤولية على أساس الديمقراطية والكفاءة والشفافية. ولكن المشاركة الشعبية المتدنية قوّضت استراتيجية السلطة الرامية إلى طي صفحة الاضطرابات السياسية، وخنق الحراك الجماهيري الذي استمر أكثر من عام. قادة "الحراك" والنشطاء ذوو التوجهات الليبرالية رفضوا التعديلات الدستورية التي وجدوها لا تمضي في إعادة هيكلة النظام السياسي، ولا البناء المؤسساتي للدولة، بما يضمن انسحاب الجيش من السياسة، وفتحها أمام جيلٍ جديد من القادة، ورأوا فيها حيلةً جديدةً لتعزيز سيطرة النخبة الحاكمة على السلطة، عبر تجميل واجهة النظام من دون تغييره. أما القوى الإسلامية فرأت أن التعديلات لا تكفي لتمكين الإسلام واللغة العربية، وعارضت علمانية بعض البنود. استمر الانقسام في صفوف المعارضة؛ فبينما دعا المؤيدون للديمقراطية أنصارهم إلى المقاطعة، حثّ الإسلاميون أنصارهم على التصويت بـ "لا".
يسمح الدستور الجديد للرئيس بفترتين رئاسيتين حدّا أقصى
على خلاف تعديلات الدستور العام، 2008، التي سمحت للرئيس بوتفليقة بالترشح لولاية ثالثة، يسمح الدستور الجديد للرئيس بفترتين رئاسيتين حدّا أقصى. ومن تغييرات أخرى، يتيح تشكيل أحزاب سياسية، ويمنح رئيس الوزراء بعض صلاحيات الرئيس، ويُلزم الرئيس بتعيين رئيس الحكومة من الأغلبية البرلمانية، لكن هذا الإجراء يسقط في حال فازت أغلبية موالية للرئيس. ويبقي على النظام الرئاسي المتطرّف وصلاحياته التقليدية، ففي وسع الرئيس تعيين رئيس الوزراء وعزله، وتعطيل أي قانون وفق النظام البرلماني الذي يكرّسه الدستور المعدل، سيما من خلال مجلس الشيوخ (مجلس الأمة) الذي يقرّ القوانين المرفوعة إليه، بعد التصويت عليها من مجلس النواب (المجلس الشعبي الوطني)، ويحتاج إقرارها إلى موافقة ثلاثة أرباع أعضائه، الأمر الذي لن يكون ممكنا من دون موافقة الربع المشمولين في الثلث الرئاسي. لا يوفر الدستور المعدّل برلمانا يتمتع بسلطات فعلية، وكذلك لا يوفر سلطة قضائية مستقلة، فبإمكان الرئيس، بوصفه رئيسا للمجلس الأعلى للقضاء، أن يعين القضاة ويعزلهم. في المحصلة، لا يحقق الدستور الجديد مبدأ التوازن بين السلطات، إذ يتدخل الرئيس في القرارات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ويمارس سلطته على الهيئات التنظيمية المختلفة.
نسبة التصويت المتدنيّة تؤكد غياب التوافقات الضرورية بشأن الدستور الجديد ليواجه مأزقاً سياسياً
أرادت السلطة من الاستفتاء أن يكون اختبارا للقوة في مواجهة "الحراك". وعلى الرغم من أن التعديلات الدستورية أصبحت بحكم الأمر الواقع، فإن نسبة التصويت المتدنيّة تؤكد غياب التوافقات الضرورية بشأن الدستور الجديد، ليواجه مأزقا سياسيا يرتبط بمسألة الشرعية وتمثيله الإرادة الشعبية. أما إجراء الاستفتاء في ظل استمرار اعتقالات الناشطين، والتضييق على الحريات، ومنع قوى المعارضة من طرح موقفها، فينجم عنه شعور شعبي بعدم وجود تغيير حقيقي، ويكرس لدى الشارع الجزائري حالة من الإحباط وعدم الثقة بالعملية السياسية الجارية، ما يرجّح عودة الجماهير إلى الشوارع، مجدّدة مطالبتها بتنحي النخبة السياسية التقليدية، وفسح المجال لقوى سياسية جديدة تعيد إلى العملية السياسية ديناميكيتها المفقودة.
وعلى الرغم من أن مقاطعة الاقتراع تعد ممارسة للديمقراطية، إلا أنها، خصوصا مع تكرارها في أكثر من مرحلة، تبدو غايةً في ذاتها، لا مشروعا سياسيا. وعلى المعارضة الجزائرية أن تحرص على ألا تبقى في حيز الفعل الاجتماعي القائم على العاطفة، والرفض، وتصعيد سقف المطالب، بل عليها الانتقال إلى حيّز الفعل السياسي القائم على التفاوض وحساب التوازنات، وطرح مشاريع وأهداف بديلة، يتم تنفيذها وقياس أدائها، تجسدّ المطالب المجرّدة للحركة الاحتجاجية. تحتاج "الجزائر الجديدة" إلى ما هو أكثر من صناديق اقتراع؛ إلى التأسيس لإجماعٍ من التوافقات الشعبية، والسعي إلى إعادة بناء العقد الاجتماعي السياسي والأخلاقي، الذي مزّقه، على الأقل، عقدان من حكم بوتفليقة والمؤسسة العسكرية، وإلا استمر النظام القديم في تجديد نفسه.