"التعاون الإسلامي" .. مأزق منظمة
تتجمع في الأفق سحب انقسام جغرافي/ أيديولوجي في العالم الإسلامي، لا يُستبعَد أن تكون له عواقب وخيمة على "منظمة التعاون الإسلامي"، التي نشأت عام 1969 باسم "منظمة المؤتمر الإسلامي"، رد فعل على الحريق الشهير للمسجد الأقصى، ثم ظلت بلا فاعلية لسنوات طويلة. وقد كان تغيير الاسم، بعد أكثر من أربعة عقود على تأسيسها، جزءًا من تصوّر شامل لتفعيل دورها. والمنظمة ظلت طوال هذه العقود تدار تحت مظلة "خليجية". وفي العام 2019 ضربتها العواصف العلنية، عندما دعت ماليزيا إلى عقد قمة مصغرة كان مقررًا أن تحضرها تركيا وقطر وإندونيسيا وباكستان، قبل أن تكشف الأخيرة أنها تعرّضت لتهديدات خليجية دفعتها إلى الاعتذار!
وأهمية المنظمة لا تعود إلى نفوذ سياسي يتناسب مع عدد أعضائها الذي تجاوز 55 دولة، بل إلى "الصفة التمثيلية" لمسلمي العالم، في حقبة من التاريخ العالمي يشكّل المسلمون فيه إحدى أكثر مشكلات السياسة الدولية حساسية. ومع انطلاق "الربيع العربي" وثوراته المتتابعة، كان حضور الإسلاميين السياسي، حقيقةً أو احتمالًا، القضية الأكثر استثارة للاهتمام. وفي أزماتٍ متتابعةٍ كانت قضية "من يمثل المسلمين؟" تطرح نفسها صراحةً أو ضمنًا في سجالات "حربٍ باردة" بين إسلامٍ يمنح النظم المستبدّة مشروعية تحتاج إليها بشدة في مواجهة، فشل شامل في السياسات وتعارض صارخ مع القيم الإنسانية الأكثر بداهةً واتساقًا مع الفطرة الإنسانية، وفي مقدمتها العدوان المروّع على حق الحياة.
ولكي ندرك درجة الهشاشة التي يتسم بها موقف التيار الذي ظلّ مسيطرًا على المنظمة طوال العقود الماضية، يكفي استحضار الانزعاج الشديد، حتى حدود الاتهام والتجريم، من منظمةٍ غير رسمية لم تجد لها مكانًا على خريطة بلاد المسلمين الواسعة، فتأسست في أيرلندا، عن "اتحاد علماء المسلمين" أتحدّث!
ولقد كان عدد كبير من الدول المسلمة، منذ نشوب الثورة الإيرانية، طرفًا بشكل مباشر أو غير مباشر، في استقطاب شيعي سني، بدأ بحرب إيرانية عراقية ثم تطوّر أخيرا إلى: المستنقعين، السوري واليمني، وبين الحروب الثلاث، وبالتوازي معها، لم يتوقف التلاسن المذهبي الطويل يومًا. والمنظمة في الأجل المنظور سوف تكتسب أهمية كبيرة في العلاقات بين الدول المسلمة، وفي العلاقة بين المسلمين والعالم. والأرجح أن تتحوّل إلى ساحة تدافع كبير بين كتلتين، لكل منهما تصوّرها الخاص لقضايا رئيسة.
وقد كان صوت المنظمة في أزماتٍ كثيرة تعرّضت لها أقليات مسلمة (كمسلمي ميانمار ومسلمي الصين) غير مسموع، إذا قورن بإدانات رسمية غربية متكرّرة بشأن ما تعرّضت له عدة أقليات مسلمة، وبينما نجد أن "منظمة الوحدة الأفريقية" التي عاصرت، منذ نشأتها، عددًا كبيرًا من الانقلابات العسكرية، قد طوّرت موقفًا واضحًا من الانقلابات العسكرية، مترافقًا مع اهتمامٍ يزداد بوضوح بقضايا حقوق الإنسان والحريات الأساسية، تكاد "منظمة المؤتمر الإسلامي" تكون مكبلة بقيود معسكر "الثورة المضادة"، وهو معسكر عربي في المقام الأول، بينما خريطة شعوب الدول المنتمية إلى المنظمة أكبر بكثير.
وعلى الرغم من أن الخارطة ليست منقسمة إلى خارطتين، بالشكل الحاد القاطع، فإن تحولات السنوات القليلة الماضية قد تنبئ عن انقسام مُرجَّح، فمناطق شمال أفريقيا وغربها، والخليج، والهلال الخصيب تكاد أن تفقد آخر هوامش التعبير والفعل الديمقراطي، فضلًا عن الرفض الجذري العنيف لأي حضور للدين في ساحة الشأن العام. في المقابل، تشهد آسيا الصغرى وآسيا الوسطى وامتدادها حتى إندونيسيا نظمًا سياسية أقل استبدادًا وأكثر قابلية لقبول وجود، بصيغة ما، لقوى سياسية ذات مرجعية دينية. وفي صراعات النماذج والمصالح والقيم التي عمّقها "الربيع العربي" والتباين الحادّ مع ما يسمّى "النموذج التركي"، ستكون قضية تمثيل المسلمين قضية شديدة الحساسية.
وخلال سنواتٍ قليلة مضت، كانت هناك محاولاتٌ لم تخلُ من خشونة، لإنشاء كيانات تنافس مؤسّسات ذات رصيد تاريخي كبير، كالأزهر، على صفته التمثيلية وقدرته على التأثير وطنيًا وإسلاميًا ودوليًا. وعلى سبيل المثال، في ملف مسلمي أوروبا، كان هناك انقسام بين رؤيتين وخطابين، كلاهما يحاول أن يكون ممثلًا للمسلمين، واضحًا. والصراع على هذه الصفة التمثيلية مرشّح للتصاعد، وفي قلب عواصفه أرجّح أن تكون "منظمة المؤتمر الإسلامي"، وهو مأزق قد لا يتأخر كثيرًا.