"الاختيار" من نقد الماضي إلى تثبيت الواقع
يقع المسلسل التلفزيوني المصري "الاختيار" ضمن أساليب الاتصال وعملياته، باستخدام المنتجات الثقافية. يستكمل حالة التوظيف السياسي للدراما التليفزيونية، والممتدّة منذ سنوات، كما يُجْمل رسائل أعمال سابقة عن الإرهاب وإخفاق الانتقال الديمقراطي، في إطارٍ أعم، تصوير ثورة 2011 في مصر مؤامرةً صعّدت الإرهابيين إلى الحكم، أما الثوريون فانتهازيون أو مخدوعون أو عملاء، أو أشخاص قليلو الحيلة. تستطيع القول، مجازا، إنه عمل درامي مؤسّس لرواية السلطة ورسائلها ورؤيتها، بما فيها تحديد المخاطر ونقاط القوة والضعف لكسب معركة الوطنية، تقديرا استراتيجيا إن شئت، ورواية التاريخ بعيون السلطة، شاركت في إخراجها كتيبة مخرجين، كما تنشر صحافة القاهرة. ويحاول المسلسل، كما رأينا في ما بثّ، محاكاة ما جرى بتعبيرات وشخوص حقيقية. وقد نفّذ بتعاون جهاتٍ رسمية، وهو يتكئ على نقاط الضعف في بنية الثورة، بما فيها من تحالفات انتهازية وتفسّخ وصراعات دامية. وتستخدم في هذا العمل الدرامي تسجيلات، منها حوارات ولقاءات مع إسلاميين، أداة لتمرير الرسائل المراد أن تترسّخ فى الأذهان، أحد مصادر السلطة وهيمنتها، لكنها لا تخرج عّما يسميه بير بورديو "لعبة المنع بواسطة العرض"، حجب المعلومات عن طريق قطع سياقها واجتزائها. تتصل التسجيلات الموزّعة بين الحلقات (يقال إنها 30 تسجيلا) مع العمل الدرامي، أو تقطعه، يمكنك رؤيتها كما تحبّ، حسب موقعك أو محدّدات التلقي.
الفكرة الرئيسية للعمل هي ذاتها السردية عن الثورة مؤامرةً صعّدت الإرهابيين إلى منصّة الحكم، وعطّلت الإنتاج باحتجاجاتٍ فئوية، وهزّت الثقة في مؤسّسات الدولة، ثم تجد الدراما في معناها مجموعة متناقضات، الخيانة أمام الأمانة، والانتهازية أمام النزاهة والترفّع، الإرهاب مقابل الأمن. أما الحبكة الدرامية فتتمثل في تصاعد الأحداث، لكل حلقة عنوان منفصل يقدم عدّة وقائع أو حدثا مفصليا، ومن خلاله تبنى استنتاجات ورؤية عامة تتشكّل من الأحداث لتبني التصوّر العام، عن المخاطر والتهديدات التي أنتجتها الثورة وانعكاساتها في المرحلة الانتقالية، ثم القرار، وهكذا يجري الارتكاز على نقد الماضي، لتثبيت الحاضر وقبوله، بالإذعان أو الرضا، بالخوف أو الامتنان، لأنه أنهى الفاصل القبيح.
الأعمال الدرامية تحارب الإرهاب وحسب، تخلط بينه وبين الثورة، وعبرها تجرّم أي فعل جماهيري، بوصفه خطرا مهدّدا للدولة واستقرارها
بين أهداف "الاختيار" أيضا إيجاد تجانس مع السلطة وتنافر مع مرحلة الثورة بشكل كامل، بالتركيز على المرحلة الانتقالية، واستخدام تحالفات الإخوان المسلمين وتفاهمات مع السلطة وإسلاميين. وينتقل من هذا الهدف إلى تعزيز مكانة الحكم وإيضاح ما واجهته أجهزة الدولة من مصاعب ومخاطر لم تكن معلومةً لدى المجتمع بمن فيه المحتجّون. السلطة لاعبٌ أساسيٌّ يحدّد الخطوات والاتجاه والقرار، وتشكّل المشهد ببراعة وحكمة واقتدار. تربط السلطة بالوطنية مقابلا من خارجها ما بين مدّعين وانتهازيين وعملاء. الدراما كما صوّرها بعضهم "فاكسين" (لقاح) وفيتامين لتحصين الوعي من الجماعات الإرهابية، كل الأهداف مرتبطة بتأكيد السردية، وهو تكرار لاستخدام آليات الصراع السياسي بنقد الماضي لتقبل الحاضر والتأسيس للمستقبل.
ليس جديدا توظيف المنتجات الثقافية في الصراع السياسي في مصر. استخدمها نظام أنور السادات، وسمح أيضا، في صراعه مع الناصريين، بأعمال سينمائية تفنّد نظام يوليو 1952، مظاهر الديكتاتورية، سجون وقمع غير مبرّر، دارت الكاميرات والسادات يهدم جدار السجن، ويحرق شرائط التسجيلات التي لم تعرف في مصر الزوال. وظفت اللقطات سينمائيا، لكن نظامه مارس كل ما نقده. أصبح التأثير الأكبر اليوم للمنتجات الثقافية يتمثل في الدراما التليفزيونية، لذا عادت أجهزة الدولة إلى سوق الإنتاج، لتنظيمه وضبطه، وصولا إلى ما يشبه الاستحواذ. ليس ذلك عملا متفرّدا في ذاته. كل الدول تضع استراتجية للإعلام، وتستخدم عمليات الاتصال، وتوظّفها حسب مصالحها ومستهدفاتها. ويمكن أن تلعب المنتجات الثقافية دورا مهما في الدفاع عن مصالح الدول ودورها ومركزها، وأداة تبصيرٍ وإيضاح للحقوق والمشكلات على المستوى الوطني. مئات الأبحاث كتبت فى ذلك، وتاريخ المنتجات شاهد ومادة للتحليل، لكن الدراما المصرية مستغرقة منذ فترة فى مناقشة الثورة بوصفها مهدّدا بالتوازي مع مناقشة قضية الإرهاب، والربط بينهما أحيانا.
والدراما محلّ الاهتمام دعائيا لا تتماسّ مع قضايا إشكالية أخرى، بل ربما تمنع من الخوض فيها على اعتبار تناولها غير مسموح ضمن المنتجات الثقافية، أو أنها لا تمثل أهمية ملحّة اليوم أمام خطر الإرهاب، وحتى نقد هذه الأعمال يقابل بتشنّج ظاهر، ويعتبر ضمن مؤامرة دولية. هكذا تخصّص الصحف ومجلات صفحاتها لذلك، تتساءل لماذا يرفض الإعلام العالمي وقوى الشر فضح الإرهاب، لكن الأعمال ليست كما يراد أن ترى، تحارب الإرهاب وحسب، فهي تخلط بينه وبين الثورة، وعبرها تجرّم أي فعل جماهيري، بوصفه خطرا مهدّدا للدولة واستقرارها، وهو ما تمكن رؤيته فى مقارباتٍ عديدةٍ، تتناول إعلام النظم السلطوية، والتى تتفاوت، حتى في كفاءتها وطرق توظيفها.
الفارق كبير أن تروي قصة في إطار اجتماعي وسياسي وحبكة، وأن تلقي محاضراتٍ متتالية بوصفها عملا فنيا
ربما المقاربة هنا مفيده، استقبل مسلسل "القاهرة كابول"، العام الماضي بترحاب، وحظي بمتابعة وتقدير، رغم أنه يركّز على التنظميات الإرهابية. الفارق كبير أن تروي قصة في إطار اجتماعي وسياسي وحبكة، وأن تلقي محاضراتٍ متتالية بوصفها عملا فنيا، تخضع تفاصيل إنتاجه للضبط مركزيا بما فيها عمليات التلقّي، والتي يجب أن تكون على مقاس المنتج، يقابل بالرضا أو الإذعان. يقول بير بورديو مخاطبا السياسيين إنه ليس جدّيا أن تفكّر في السياسة من دون أن تتحلّى بتفكير سياسي. وفي نماذج الاتصال السلطوي، يريد بعضهم نفي مكوناته، رسالة ومرسل ومستقبل، لتكون عملية التلقّي محدّدة مسبقا. على المستقبل تلقي الرسائل، وتكون ردود فعله منضبطة، الاقتناع الكامل، الترحيب والتصفيق، وهو ما يتناقض مع عملية الاتصال من حوار وتفاعل متعدّد الأشكال والنتائج. يريد المنتج تفصيل ردود أفعال المستهلكين، كأنه يطرح العمل لفئة مختارة، وليس على جمهور عام. المطلوب التأييد الشعبي وما دونه اصطفاف مع قوى الإرهاب. هكذا يُكتب وتوصف ردود الأفعال النقدية، وهو ما يمثل عنفا رمزيا تناوله بير بورديو فى كتابه "التليفزيون وآليات التلاعب بالعقول"، ويرى أنه "يمارس بتواطؤ ضمني من قبل هؤلاء الذين يخضعون له، وأولئك الذين يمارسونه بالقدر الذي يكون فيه أولئك كما هؤلاء، غير واعين بممارسة هذا العنف أو الخضوع له". ويصبح الموقف من مسلسل تلفزيوني اختبارا للموقف الوطني في مواجهة نقد بالضرورة يوصف أنه يساند الإرهاب. وهم بدورهم هذا وطنيون، دعاة تنوير في مواجهة الظلامية إلى اخر قاموسٍ نحفظه جيدا في أسواق الثقافة.
يقول شيلر في كتابه "الاتصال والهيمنة الثقافية" "إن الباحثين في السياسة الاتصالية بوصفهم مستشارين لرجال الإعلانات والعلاقات العامة يرتادون الآن ممرّات السفارات ومقارّ أركان الحرب". وقد استوجبت الصورة في حالة مصر، وبحكم عوامل عدّة، منها الحاجة للدعاية، وما شهدته وسائل الإعلام من ارتباكات، إعادة هيكلة مؤسّسات الاتصال والإنتاج الثقافي، بما فيها الدراما، وليس انفصالا عن طبيعة النظام الذي تشكّل، وتشغل الدعاية فيه مساحةً للهيمنة، ليست كافية أدوات القمع، بما فيها حوادث متوارثة عن سجن أو تعذيب، للسيطرة على التفاعلات في مجتمعٍ مرّ بثورة.
قضية الثورة ومخاطر الإرهاب تجعل العمل يأخذ مساحاتٍ للنقاش والنقد، كان بعضها ساخرا وبعضها جعل العمل محلّ تقديس
تمتلك الدراما المصرية تأثيرها، رغم كل ما لحق بها، ويأخذ مسلسل "الاختيار" الذي يُتابع عربيا، مساحة من النقاش والتأثير أيضا، على عكس آراء تستخفّ به من موقع المعارضة السياسية. وليست رسالته مرتبطةً بالواقع المحلي وحسب، وكما لا يمكن إغفال جماليات الصورة وتأثيرات الموسيقى وتوظيف المشاعر والانفعالات. ولو كانت غير مؤثّرة، ما كانت أثارت هذا النقاش. تبدو رؤية من أنتجوا العمل أن الواقع ثقيل، لذا يذكّرونك بمصائر واحتمالات خطرة في تفاعلات الثورة جرى تجاوزها. وعموما تبقى مساحات التأثير متفاوتةً في عمليات الاتصال، بما تحمله من إشكالات، كالاجتزاء أو المغالطات والمصداقية، لكن ذلك لا ينفي قدرته على التفاعل بين المنتجين والمستهلكين، وتتقاطع في مدى عمليات التفاعل، وتحدّد بعضا منها في خلفية المستقبل ووضعه الاجتماعي والطبقي، وتصوّراته عن الواقع، بوصف أن هذا النوع من الدراما يصنع المقارنة، ويجبرك في الخوض فيها، وهو، كما أراد منتجوه، صنع مساحات أخرى تتنافى مع أهدافه.
حلّل شيلر دور المنتجات الثقافية في العمليات الاتصالية، بوصفها عملية إنتاجية ترتبط بالمتحكّمين فيها. يكتب في كتابه "الاتصال والهيمنة الثقافية أن "وسائل إعلام الجماهير تكمل وتوسع نطاق الرسالة التي يريد النظام نقلها". وشرح دور عمليات الإنتاج في الهيمنة واستقرار النظام وسيطرته، وهو ما يحيل إلى الهواجس المرتبطة بالاستقرار مقابل التغيير، الواقع في ظل الأزمات مسكون بالهواجس والمخاوف، ولعب العمل الدرامي على هذه التيمة، عبر استدعاء الماضي، وتكرار التحذير منه في سياق محلي متصل بسياقات سياسية عربية، لذا تجد اصطفافا يتشكل عربيا حول "الاختيار"، يتفاعل مع المواقف السياسية وأيضا ما تمتلكه الدراما المصرية واسعة الانتشار من وزن، كما الموضوع الذي يجري تناوله، قضية الثورة ومخاطر الإرهاب تجعل العمل يأخذ مساحاتٍ للنقاش والنقد، كان بعضها ساخرا وبعضها جعل العمل محلّ تقديس. وعموما شكل العمل فرصة للتفكير، وإعادة التماثل واستدعاء التاريخ ووقائع وأحداث، وطرح أسئلة بشأن الواقع أيضا، هل جرى التغيير في الحاضر متأسسا على نقد الماضي، الذي يُستدعى دائما كلما واجهت سلطة مشكلات الحاضر، وغير ذلك الكثير فى المسلسل عن صورة الشعب والصراع الاجتماعي المغيّب، ودور الفرد في التاريخ، وتمنيات أن تنتهي الأزمات الحالية بما يسدّ أبواب الخيبة.