منذ عام 2011 درجت المقالات التي تنعى الصحافة الورقية في العالم، وكانت الأرقام التي تصلنا من مختلف الدول، تؤكّد حالة الحداد التي تعيشها هذه الصناعة. على سبيل المثال، اختفت بين عامَي 1970 و2016 أكثر من 500 مطبوعة رئيسية في الولايات المتحدة الأميركية، وفق أرقام منظمّة American Society of News Editors. في فرنسا، بدأت المطبوعات الصغيرة والمناطقية تختفي تماماً، وفي بريطانيا، تعاني الصحف الصغيرة من أزمات مستمرة منذ عام 2008.
السبب الأول لهذا الموت هو تراجع المردود الإعلاني، بعد الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، إلى جانب التراجع الكبير في أعداد قراء النسخ المطبوعة مقارنة بالنسخ الإلكترونية. وهذه بديهيات يعرفها أصحاب المؤسسات، يعرفها المعلنون، ويعرفها القارئ.
في العالم العربي، يبدو الوضع بطريقة أو بأخرى مشابهاً للوضع العالمي الذي تواجهه صناعة الإعلام عامةً، والصحف تحديداً. خلال 4 سنوات فقط، اختفت الصحف الورقية تقريباً في بلد صغير كلبنان مثلاً، فتوقفت طباعة كل من "السفير"، و"الاتحاد اللبناني"، والمستقبل"، و"الأنوار"، و"الحياة"، و"ديلي ستار". هذا الواقع المحلي، انعكاس لواقع عربي أكبر، يمتدّ من بيروت إلى القاهرة، فتونس والجزائر، والخليج والأردن. إذ تعاني الصحافة ومعها قطاع صناعة الإعلام كاملاً من أزمات كثيرة، تجعل مصيرها غير واضح إطلاقاً.
ويزداد الغموض المحيط بهذا المستقبل حالياً مع تفشي فيروس كورونا حول العالم، وإصدار الحكومات العربية قرارات موحّدة بوقف طبع الصحف الورقية منعاً لانتقال العدوى.
لا يبدو الغرق في التكهنات المستقبلية حميداً في هذه الفترة، لذلك نسرد وقائع الحال اليوم، التي تكفي وحدها لرسم خطوط مستقبل هذه الصناعة كاملةً خلال الأشهر والسنوات القليلة الماضية. والحقيقة أن سرد الوقائع التي تحيط بالعمل الصحافي حالياً في العالم العربي غير مبهجة ولا مبشّرة، فمن أين نبدأ؟ الحريات طبعاً.
تتميّز الأنظمة العربية عن غيرها من الدول، بحماستها وجهوزيتها الدائمة لإعلان حال الطوارئ. وقد جاء فيروس كورونا، ليعطيها الضوء الأخضر من دون الخوف من المساءلة. في ساعات قليلة شاهد مواطنون في أكثر من بلد عربي الجيوش بدباباتهم وأسلحتهم في الشوارع، وعلى مداخل المدن. وفي مشهد يليق بنزول العسكر إلى الشوارع بدأت الاعتقالات.
في الأردن اعتقل الأمن مدير عام قناة "رؤيا" فارس الصايغ، ومدير الأخبار ومقدم برنامج "نبض البلد" محمد الخالدي، بعد تقرير استطلاعي بثته المحطة لمواطنين يعملون بالأجر اليومي، لوّح فيه أشخاص بالتجارة في المخدرات في حال لم يسمح لهم بالعمل. وبعد يومين عادت وأطلقت سراحهما.
حال الأردن من حال كل الأنظمة العربية، وتعاملها مع الصحافيين خلال هذه الفترة. المغرب اتخذ من الأخبار الكاذبة غطاءً لاعتقال عدد من الأشخاص، بينما وضعت الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري في البلاد ما سمته خريطة طريق للتغطية الإعلامية للوباء، تضمنّت مجموعة من التعابير المطاطة عن المسموح والممنوع.
اقــرأ أيضاً
ما سبق عيّنة صغيرة في سياق طويل لاستغلال الأنظمة العربية فيروس كورونا، بهدف تضييق الخناق على عمل الصحافيين. الجزائر مثلاً استغلت حالة الهلع العامة في البلاد والعالم، لتصفّي حساباتها مع الصحافيين المعارضين، الداعمين للانتفاضة الشعبية. هكذا اعتقلت الصحافي خالد درارني، وأصدرت حكماً بالسجن ثمانية أشهر بحق الصحافي سفيان مراكشي الذي يراسل وسائل إعلام أجنبية بتهمة "استيراد معدات بث مباشر بدون ترخيص". وبعدها بأيام قليلة برّرت الحكومة الجزائرية قرارها تعليق عمل موقع "مغرب اميرجون"، و"راديو إم" التابع له، بتلقي تمويل أجنبي. واتهمت الحكومة هذه المؤسسة الإعلامية بكونها "ذراعاً إعلامية وقوة ناعمة تعمل لمصلحة هيئات أجنبية".
في لبنان أيضاً، الذي يشهد مرحلة انتقامية من الانتفاضة الشعبية، تستدعي الأجهزة الأمنية بشكل متكرّر ناشطين ومدونين وصحافيين للتحقيق، وسط تجاهل الإعلام التام لهذا القمع. ومنذ انتشار فيروس كورونا في بيروت، عاد الإعلام المحلي سالماً إلى أحضان المنظومة الحاكمة، ناقلاً خطابها، ومكرراً بياناتها، لتختفي أي نبرة نقدية، في أسرع عملية تطويع للخطاب الإعلامي في السنوات الأخيرة. وتحت ظلام كورونا قامت السلطات البحرينية بالانتقام من الصحافي المعتقل محمود الجزيري المحكوم بالسجن لمدة 15 عاماً، فنقلته إلى السجن الانفرادي، من دون تعليل الأسباب ولا إعطاء أية معلومات إضافية حول وضعه.
هذا الواقع العربي المخيف، الذي يحكم عمل الصحافيين بشكل يوميّ، يرسم بدقة جزءاً كبيراً من المشهد الإعلامي المستقبلي في المنطقة. فتحت خطاب الحكومات التهويلي، تختفي المكتسبات الصغيرة التي حققتها الصحافة المستقلة منذ عام 2011 مع اندلاع الربيع العربي. تتحوّل المكتسبات إلى فُتات يتطاير بحضور العسكر في الشوارع، والرقيب في مكاتب الأمن.
اقــرأ أيضاً
وما تبقى من هذه المكتسبات، إن صمدت لما بعد كورونا ستتكفل بها الأزمة المالية. فتباعاً في أغلب الدول العربية بدأت تخرج طلبات استغاثة لإنقاذ ما يمكن من المؤسسات والوظائف. في الأردن طالبت نقابة الصحافيين الحكومة بدعم عاجل للصحف الورقية وإنقاذ العاملين لديها. وأشارت إلى أن المطبوعات اليومية لم تستطع دفع رواتب موظفيها لعدم توفر الإمكانات المالية، نظراً إلى أنها تعاني منذ سنوات من تدهور ماليّ، وبالكاد كانت تؤمن الرواتب والنفقات الأساسية.
وفي تونس لا يبدو الوضع أفضل حالاً بعد عام كامل من تقاعس مؤسسات عن دفع مرتبات صحافييها. وفي لبنان، اختارت القنوات التلفزيونية حسم المزيد من مرتبات العاملين الذي تآكل القسم الأكبر منه منذ انتفاضة 17 تشرين، بسبب تراجع الإعلانات وتراجع التمويل السياسي، ثم تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية. في قطر صُرف عشرات الصحافيين من المؤسسات التي يعملون فيها، وتم استبدالهم بمتدربين شباب يعملون مجاناً أو برواتب أقلّ.
فهل تنفرج الحال بعد كورونا؟ الوضع لا يفسح مجالاً للكثير من التفاؤل، فالإعلام الحكومي العربي، سيكون أول المتضررين من تراجع عائدات الدول، أما بالنسبة للإعلام الخاص، فإن الانكماش الاقتصادي، سينعكس حتماً على مموليها، وبالتالي على ميزانياتها ورواتب موظفيها.
عام 2006، نشرت مجلة "ذي إيكونوميست" الأميركية مقالاً بعنوان "من قتل الصحيفة؟"، لم تقدّم فيها جواباً مباشراً على سؤالها طبعاً، لكنها وصفت الصحف بـ"الكائن المعرض للانقراض". اليوم قد يصحّ هذا الوصف على قطاعات الإعلام كافة، لا الصحافة المكتوبة فقط. فبينما يرسم النظام العالمي ملامح جديدة ستتكشف تباعاً، تسقط الأسس التي قامت عليها صناعة الإعلام كاملاً في القرن الأخير، والإعلام العربي في قلب هذا السقوط.
في العالم العربي، يبدو الوضع بطريقة أو بأخرى مشابهاً للوضع العالمي الذي تواجهه صناعة الإعلام عامةً، والصحف تحديداً. خلال 4 سنوات فقط، اختفت الصحف الورقية تقريباً في بلد صغير كلبنان مثلاً، فتوقفت طباعة كل من "السفير"، و"الاتحاد اللبناني"، والمستقبل"، و"الأنوار"، و"الحياة"، و"ديلي ستار". هذا الواقع المحلي، انعكاس لواقع عربي أكبر، يمتدّ من بيروت إلى القاهرة، فتونس والجزائر، والخليج والأردن. إذ تعاني الصحافة ومعها قطاع صناعة الإعلام كاملاً من أزمات كثيرة، تجعل مصيرها غير واضح إطلاقاً.
ويزداد الغموض المحيط بهذا المستقبل حالياً مع تفشي فيروس كورونا حول العالم، وإصدار الحكومات العربية قرارات موحّدة بوقف طبع الصحف الورقية منعاً لانتقال العدوى.
لا يبدو الغرق في التكهنات المستقبلية حميداً في هذه الفترة، لذلك نسرد وقائع الحال اليوم، التي تكفي وحدها لرسم خطوط مستقبل هذه الصناعة كاملةً خلال الأشهر والسنوات القليلة الماضية. والحقيقة أن سرد الوقائع التي تحيط بالعمل الصحافي حالياً في العالم العربي غير مبهجة ولا مبشّرة، فمن أين نبدأ؟ الحريات طبعاً.
تتميّز الأنظمة العربية عن غيرها من الدول، بحماستها وجهوزيتها الدائمة لإعلان حال الطوارئ. وقد جاء فيروس كورونا، ليعطيها الضوء الأخضر من دون الخوف من المساءلة. في ساعات قليلة شاهد مواطنون في أكثر من بلد عربي الجيوش بدباباتهم وأسلحتهم في الشوارع، وعلى مداخل المدن. وفي مشهد يليق بنزول العسكر إلى الشوارع بدأت الاعتقالات.
في الأردن اعتقل الأمن مدير عام قناة "رؤيا" فارس الصايغ، ومدير الأخبار ومقدم برنامج "نبض البلد" محمد الخالدي، بعد تقرير استطلاعي بثته المحطة لمواطنين يعملون بالأجر اليومي، لوّح فيه أشخاص بالتجارة في المخدرات في حال لم يسمح لهم بالعمل. وبعد يومين عادت وأطلقت سراحهما.
حال الأردن من حال كل الأنظمة العربية، وتعاملها مع الصحافيين خلال هذه الفترة. المغرب اتخذ من الأخبار الكاذبة غطاءً لاعتقال عدد من الأشخاص، بينما وضعت الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري في البلاد ما سمته خريطة طريق للتغطية الإعلامية للوباء، تضمنّت مجموعة من التعابير المطاطة عن المسموح والممنوع.
ولعلّ القاسم المشترك العربي الآخر هو اعتماد السلطات المحلية وحدها مصدراً للأرقام والمعلومات العلمية المتربطة بانتشار الفيروس. فعدد المصابين المسموح الكشف عنه هو ذلك الذي تعلنه السلطات. أما محاولة الاجتهاد خارج هذا الإطار المحدود، فلن تكون عواقبها سليمة. وهو عموماً ملف كلّف مراسلة صحيفة "ذا غارديان" في القاهرة، ترحيلها من البلاد بعدما ذكرت في تقرير أن الإصابات بالفيروس أكبر من العدد الذي أعلنت عنه وزارة الصحة. ولم تتأخر السلطات العراقية في اللحاق بالنظام المصري، فأقفلت مكتب وكالة "رويترز" للأنباء، بسبب مقال نشرته عن أن أعداد المصابين بمرض "كوفيد-19" تفوق الأرقام الرسمية المعلنة، وهو ما اعتبرته السلطات "مخالفة لقواعد البث الإعلامي". واتهمت هيئة الإعلام والاتصالات العراقية، الوكالة، في بيان، بـ"تعريض الأمن المجتمعي إلى الخطر"، و"إعطاء صورة سلبية عن خلية الأزمة" التي تم تشكيلها في مواجهة الجائحة العالمية.
ما سبق عيّنة صغيرة في سياق طويل لاستغلال الأنظمة العربية فيروس كورونا، بهدف تضييق الخناق على عمل الصحافيين. الجزائر مثلاً استغلت حالة الهلع العامة في البلاد والعالم، لتصفّي حساباتها مع الصحافيين المعارضين، الداعمين للانتفاضة الشعبية. هكذا اعتقلت الصحافي خالد درارني، وأصدرت حكماً بالسجن ثمانية أشهر بحق الصحافي سفيان مراكشي الذي يراسل وسائل إعلام أجنبية بتهمة "استيراد معدات بث مباشر بدون ترخيص". وبعدها بأيام قليلة برّرت الحكومة الجزائرية قرارها تعليق عمل موقع "مغرب اميرجون"، و"راديو إم" التابع له، بتلقي تمويل أجنبي. واتهمت الحكومة هذه المؤسسة الإعلامية بكونها "ذراعاً إعلامية وقوة ناعمة تعمل لمصلحة هيئات أجنبية".
في لبنان أيضاً، الذي يشهد مرحلة انتقامية من الانتفاضة الشعبية، تستدعي الأجهزة الأمنية بشكل متكرّر ناشطين ومدونين وصحافيين للتحقيق، وسط تجاهل الإعلام التام لهذا القمع. ومنذ انتشار فيروس كورونا في بيروت، عاد الإعلام المحلي سالماً إلى أحضان المنظومة الحاكمة، ناقلاً خطابها، ومكرراً بياناتها، لتختفي أي نبرة نقدية، في أسرع عملية تطويع للخطاب الإعلامي في السنوات الأخيرة. وتحت ظلام كورونا قامت السلطات البحرينية بالانتقام من الصحافي المعتقل محمود الجزيري المحكوم بالسجن لمدة 15 عاماً، فنقلته إلى السجن الانفرادي، من دون تعليل الأسباب ولا إعطاء أية معلومات إضافية حول وضعه.
هذا الواقع العربي المخيف، الذي يحكم عمل الصحافيين بشكل يوميّ، يرسم بدقة جزءاً كبيراً من المشهد الإعلامي المستقبلي في المنطقة. فتحت خطاب الحكومات التهويلي، تختفي المكتسبات الصغيرة التي حققتها الصحافة المستقلة منذ عام 2011 مع اندلاع الربيع العربي. تتحوّل المكتسبات إلى فُتات يتطاير بحضور العسكر في الشوارع، والرقيب في مكاتب الأمن.
وفي تونس لا يبدو الوضع أفضل حالاً بعد عام كامل من تقاعس مؤسسات عن دفع مرتبات صحافييها. وفي لبنان، اختارت القنوات التلفزيونية حسم المزيد من مرتبات العاملين الذي تآكل القسم الأكبر منه منذ انتفاضة 17 تشرين، بسبب تراجع الإعلانات وتراجع التمويل السياسي، ثم تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية. في قطر صُرف عشرات الصحافيين من المؤسسات التي يعملون فيها، وتم استبدالهم بمتدربين شباب يعملون مجاناً أو برواتب أقلّ.
فهل تنفرج الحال بعد كورونا؟ الوضع لا يفسح مجالاً للكثير من التفاؤل، فالإعلام الحكومي العربي، سيكون أول المتضررين من تراجع عائدات الدول، أما بالنسبة للإعلام الخاص، فإن الانكماش الاقتصادي، سينعكس حتماً على مموليها، وبالتالي على ميزانياتها ورواتب موظفيها.
عام 2006، نشرت مجلة "ذي إيكونوميست" الأميركية مقالاً بعنوان "من قتل الصحيفة؟"، لم تقدّم فيها جواباً مباشراً على سؤالها طبعاً، لكنها وصفت الصحف بـ"الكائن المعرض للانقراض". اليوم قد يصحّ هذا الوصف على قطاعات الإعلام كافة، لا الصحافة المكتوبة فقط. فبينما يرسم النظام العالمي ملامح جديدة ستتكشف تباعاً، تسقط الأسس التي قامت عليها صناعة الإعلام كاملاً في القرن الأخير، والإعلام العربي في قلب هذا السقوط.