تتفاقم عمليات التنقيب العشوائية عن الآثار السودانية والتي تسلب وتهرب براً وجواً، لينتهي بها المطاف في متاحف أو دور مزادات عالمية، بينما تفتقر الدولة إلى الموارد المالية والإطار القانوني المنظم لعمليات الاسترداد.
- تناثرت على بعد كيلومترين من موقع جبل المراغة الأثري، شمال شرقي السودان، آنيات الفخار والقاشاني بديع الصنع، بينما تعلو أصوات حفارات تعمل بلا كلل خلف خيمة نصبها المعتدون المنهمكون في حفر خندق بطول 12 مترا وعمق 18 مترا في المكان الذي يعود إلى عصر مملكة مروي التي امتد عمرها من عام 800 قبل الميلاد وحتى عام 350 ميلادية، بحسب ما شاهده المفتش في الهيئة القومية للآثار والمتاحف أحمد الأمين، والذي وثق الواقعة أثناء وجوده ضمن فريق من مفتشي الهيئة وشرطة السياحة والآثار خلال زيارة تفقدية في 26 يوليو/ تموز 2020، مشيرا إلى أن الموقع ليس محاطا بسور ولا يوجد فيه حارس وتغيرت معالمه.
وقدمت الهيئة بلاغا حمل رقم 201 في قسم الملتقى شمال أم درمان، ليتم القبض على 5 معتدين وحجز آلياتهم، بحسب إفادة المفتش الأمين المفوض بمتابعة البلاغ المذكور، قائلا: "لا تزال القضية منظورة أمام المحكمة".
وتتكرر أحداث الواقعة السابقة في السودان، إذ تتزايد الاعتداءات على المواقع الأثرية منذ عام 2019، وفق ما رصده المدير الميداني لمشروع حفريات المسح الأثري والتراثي في منطقة المحس بالولاية الشمالية، الدكتور محمد البدري، مؤكدا لـ"العربي الجديد"، تكرار التقدم ببلاغات تتراوح بين اثنين وثلاثة شهريا وغالبا ما تقيد ضد مجهول.
نهب المتاحف والمواقع الأثرية
يزخر السودان بالمواقع الأثرية التي تعود إلى عصور ما قبل الميلاد، على امتداد ولاية نهر النيل والشمالية، كالبجراوية والنقعة والمصورات ود بانقا والحصى والدانقيل، إلى جانب الدفوفة الشرقية والغربية ودوكي جيل وغيرها الكثير، كما يوضح الأستاذ المساعد في قسم الآثار بجامعة النيلين حماد محمد حامدين.
ومع تزايد حمى التنقيب عن الذهب والآثار، تعرضت مواقع أثرية في ولايتي الشمالية ونهر النيل للتخريب، وفق إفادة مدير إدارة الكشف الأثري في هيئة الآثار والمتاحف عبد الحي عبد الساوي، إذ تعرض جبل البركل، وهو موقع أثري في مدينة كريمة، شمال السودان، لعدة سرقات متتالية خلال الفترة الممتدة من عام 2000 وحتى 2008، فُقد خلالها 50 تمثالا جنائزيا، وظهر ثلاثة منها في مزاد علني في مدريد في أكتوبر/تشرين الأول عام 2020، تعود للملك الكوشي تهارقا (أطلق اسم كوش على جزء من منطقة النوبة العليا، حيث قامت حضارة وادي النيل النوبية الكوشية)، والذي امتازت فترة حكمه بتوسع البناء والتشييد، وكذلك تمثال حفيده سانكامنسكن، كما تقول مديرة إدارة المتاحف ورئيسة وحدة الآثار السودانية المفقودة الدكتورة إخلاص عبد اللطيف، والتي تؤكد أن الوحدة حاليا تعمل على استرداد التماثيل، التي يؤكد المدير العام السابق للهيئة القومية للآثار والمتاحف، الدكتور عبد الرحمن علي محمد والذي يعمل خبيرا أثريا في اليونسكو، أنها معروضة للبيع عبر الإنترنت وهناك مساع لاستردادها عبر عدد من الآليات، لكن الأمر يتطلب توفير مخصصات مالية للمحامين تراوح ما بين 50 ألف دولار و100 ألف دولار.
ومن أحدث حالات النهب ما جرى في مارس/آذار المنصرم، إذ فوجئ برعي عبد الله، حارس شياخة كدرمة التاريخية الأثرية في منطقة النوبة المحس، شمال السودان، على ضفاف النيل الشرقية، بوجود ستة أشخاص ينبشون في المقابر الأثرية ليلا، وأثناء توجهه إليهم قذفوه بالحجارة، لكنه واصل سيره باتجاههم ما دفعهم إلى إطلاق النار عليه، فاضطر للفرار.
ويقول حارس الموقع التابع لجامعة الخرطوم لـ"العربي الجديد": "خفت من الرصاص ولا أعرف هوية مطلقي النار"، مؤكدا أن حالات الحفر لم تكن الأولى، ولكن استخدام السلاح الناري كان سابقة فريدة، وأضاف "صعدت على تلة عالية لأراقب الموقع حتى الخامسة صباحا ولاحظت أن الحفر كان خفيفا ولم يتجاوز نصف متر، بعدها توجهت إلى وكيل النيابة بمنطقة دلقو المحس مدونا بلاغا بشأن الحادثة".
وتتضرر المواقع الأثرية أيضا بسبب منح وزارة المعادن رخصا للاستكشاف والتنقيب للشركات بدون مسح أثري، إلى جانب التمدد السكاني والموافقة على الخطط السكنية قبل إجراء مسح أثري، نتيجة عدم التنسيق بين المؤسسات الحكومية المختلفة، بحسب الساوي.
ويعد التمدد الزراعي في المواقع الأثرية مهددا خطيرا، ومن أمثلته ما حدث في موقع الكوة الأثري في منطقة دنقلا، إذ صادقت سلطات الولاية الشمالية على تحويل جزء كبير من الموقع لأنشطة زراعية، وزرعت بالفعل مساحة تقدر بنحو 80 فدانا داخل الموقع الذي تبلغ مساحته الإجمالية 700 فدان، على الرغم من الأسوار المشيدة حوله بغرض حمايته، وتأكيداً لأهميته الكبيرة، إذ يعتبر من المواقع الضخمة التي تضم مدناً ومدافن أثرية هامة، ويعود أقدم تاريخ معروف للموقع لفترة حضارة كرمة، بحسب البيانات التي حصل عليها "العربي الجديد" من الهيئة.
تدمير المواقع الأثرية بسبب التنقيب غير الشرعي
ولا تقتصر السرقة على المواقع الأثرية، إذ نهب لصوص متحف السودان القومي، وسط العاصمة، عدة مرات، ففي عام 1991 استغل الجناة فتحات التهوية وتمكنوا من سرقة تمثال ذهبي، ولم يُقبض عليهم ولم تسترد القطع المنهوبة، بحسب غالية جار النبي، المديرة المكلفة للهيئة القومية للآثار والمتاحف، مشيرة إلى أن إدارة المتحف عالجت فتحات التهوية لكنه يفتقر حتى الآن إلى أجهزة الإنذار وكاميرات المراقبة، وبعد تلك الحادثة سُحبت كل الآثار الذهبية من معرض المتحف تجنبا لسرقتها مرة أخرى، إلا أنه تعرض لسرقة أكبر عام 2003، نُهبت خلالها 52 قطعة أثرية تعود لعصور مختلفة، وحصلت عملية السطو عقب الإفطار في شهر رمضان حين ذهب أفراد الشرطة المسؤولين عن الحراسة إلى تناول الشاي وتركوا الموقع بدون تأمين، إلا أن الأمن الاقتصادي تمكن من ضبط اللصوص في كمين أمني بالخرطوم وجرت استعادة القطع المسروقة قبل تهريبها، بحسب جار النبي.
تهريب بري وجوي
نجحت الإدارة العامة لمكافحة التهريب التابعة لهيئة الجمارك في منع تهريب 92 قطعة أثرية خلال الفترة الممتدة من يناير/كانون الثاني 2017 وحتى ديسمبر/ كانون الأول 2021، كما يؤكد مدير دائرة شؤون الولايات بالإدارة العميد شرطة حقوقي عبد الرحمن بدوي عبيد، مشيرا إلى تدوين 18 بلاغا تتعلق بتهريب الآثار والقبض على 31 متهما خلال الفترة ذاتها.
إحدى عمليات التهريب تلك أحبطها أفراد الإدارة خلال تفتيشهم شاحنة أثاث متجهة إلى الحدود السودانية المصرية في ديسمبر الماضي، إذ اكتشفوا علامات قطع ووصل في سطح خزان مياه بلاستيكي كان محملا على متن الشاحنة، ما عدوه مؤشرا إلى وجود أمر مريب حدا بهم إلى الاستمرار بالتفتيش وتفكيك مكونات الشاحنة وحمولتها على مدار 4 ساعات، ليضبطوا 4 قطع أثرية تعود إلى العهد العثماني، بحسب المعلومات التي حصلت عليها "العربي الجديد" من مصدر أمني سوداني طلب عدم الكشف عن اسمه للموافقة على الحديث، وتكرر الأمر في مارس/ آذار عام 2021، حين ضبط أفراد الإدارة تمثالين من الذهب، وقطعتين من الأحجار الكريمة تعودان إلى مملكة مروي كانتا مخبأتين داخل برميل مياه على متن مركبة متجهة من مدينة أم درمان إلى خارج البلاد.
إحباط تهريب 92 قطعة أثرية حتى نهاية 2021
ويلجأ المهربون إلى إخفاء القطع الأثرية داخل الأغراض المصرح بتوريدها أو نقلها خارج السودان والتمويه عبر اتباع الإجراءات القانونية اللازمة، وفق العميد عبيد، موضحا أن أبرز حيلهم استخدام أجسام المركبات كونها تحتوي على خزانات وأنابيب جوفاء في هيكلها، وفي المصابيح، وهذه الأجزاء تعد أماكن خفية لوضع المنهوبات، إلى جانب إخفائها في مقاعد السيارات، كاشفا أن السيارات تحمل المهربين إلى الأماكن القريبة من الحدود ويتبادلون المعلومات، لقطع ممرات محددة عبر الصحراء شمالا للوصول إلى مصر ومنها إلى دول أوروبا باعتبارها سوقا كبيرا، إلى جانب بوابة البحر الأحمر شرق البلاد والتي يقدر طولها بنحو 700 كليومتر، وهو ما يؤكده المدير العام السابق للهيئة، قائلا :"ما يساعد على خروج القطع الأثرية بسهولة حدود السودان المفتوحة وعدم فاعلية نقاط التفتيش على قلتها، وبالتالي يمكن للمهربين تجاوزها واختراقها لأنهم يستخدمون مركبات سريعة ووسائل اتصال متطورة في مسح خطوط الطول والعرض"، كاشفا عن افتقار مطار الخرطوم والمعابر الأخرى لأجهزة الكشف المتخصصة، ما يسهل على المهربين خرقها وتهريب التراث السوداني عبرها.
وتُوظف الصهاريج أيضاً في التهريب، وبحسب البيانات التي حصلت عليها "العربي الجديد" من الإدارة العامة لمكافحة التهريب، فقد عُثر في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2021 على 3 قطع أثرية عثمانية، كانت مخبأة في صهريج يقوده سوداني، وبعد التحري اتضح أن المتهم كان في طريقه لتسليمها إلى شخص أجنبي بغرض تهريبها للمملكة المتحدة.
وتُهرب الآثار السودانية أيضا عبر مطار الخرطوم، إذ يتم إخفاء القطع وسط الأمتعة الشخصية وحقائب المسافرين بطريقة احترافية، بحسب العميد عبيد، والذي كشف أن السلطات أحبطت خلال العام الماضي 4 عمليات تهريب آثار عبر المطار، وفي ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، ألقت الإدارة العامة لمكافحة التهريب شعبة شرق النيل، القبض على متهمين أحدهما سوداني والآخر أجنبي، كانا على وشك تهريب 3 قطع أثرية عبر مطار الخرطوم الدولي، تعود إلى العهد الكوشي، وهي عبارة عن رأس تمثال وطبق ومنحوت أبو الجعران وهو حجر على شكل خنفساء.
إضافة إلى ما سبق، فإن من بين وسائل التهريب التي رصدتها الإدارة العامة لمكافحة التهريب مركبات المغتربين القادمين إلى السودان والتي تدخل عبر ميناء بورتسودان شمال شرقي البلاد، بموجب دفاتر التربتك الدولية (وثيقة مرور جمركية للسيارة ومدة صلاحيتها سنة ميلادية من تاريخ إصدارها)، ويتم إخفاء الآثار فيها لدى عودتها، بالإضافة إلى تسريب الآثار عبر سيارات سياحية ومركبات منظمات دولية تستخدم في النقل والعبور بين الدول، كما يقول العميد عبيد.
فقدان القطع الأثرية بسبب البعثات الأجنبية
استعادة القطع الأثرية المسروقة
تفتقر وحدة الآثار المفقودة التابعة للهيئة القومية للآثار والمتاحف إلى إحصائيات دقيقة بشأن حجم الآثار المنهوبة، إذ تكشف دراسة أعدتها جار النبي عام 1990 أن عدد الآثار السودانية الموجودة في الخارج تقدر بـ 6.915 قطعة موزعة على 62 متحفا في أوروبا وأميركا الشمالية، بالإضافة إلى 63 لوحة جدارية في متحف وارسو، وكنز الملكة أماني شيخو في متحف برلين، لكن من بينها بعض الآثار التي خرجت بطريقة قانونية خلال الحقبة الاستعمارية، إذ أجاز القانون للحاكم العام وقتها التصرف في الآثار بالشراء أو الإهداء، أو التنازل، ما ساهم في خروج القطع إلى بريطانيا ومصر ودول أخرى، والبعض الآخر خرج بوسائل غير شرعية.
وتجمع الوحدة البيانات وتراجع القطع المعروضة في مزادات البيع بأوروبا، تمهيدا لاستعادتها عبر ترتيبات بين المنظمة الدولية للشرطة الجنائية (إنتربول)، ووزارة الخارجية السودانية، وبالفعل توجد ثلاثة طلبات على موقع الإنتربول لاسترداد التماثيل الجنائزية المنهوبة من السودان، لكن الأمر يتم بصعوبة لأن السودان لم يصادق على اتفاقية "يونسكو" لعام 1970 لمكافحة الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية، والتي تُمكّن أعضاءها من استعادة الآثار المنهوبة، لذلك تلجأ الخرطوم إلى التفاوض المباشر مع الدول التي توجد فيها قطع أثرية وتقدم إثباتات ملكيتها لها، أو تتم العملية عبر الاستعانة بالإنتربول، بحسب عبد اللطيف.
وخرجت اتفاقية اليونسكو من وزارة العدل ومرت بكل المراحل وصولا إلى مجلس الوزراء تمهيدا لإجازتها، إلا أنه بسبب الأوضاع السياسية عقب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، تعطلت مصادقة مجلسي السيادة والوزراء عليها، وبالتالي توقف الأمر في ظل غياب مجلس تشريعي، كما يوضح مدير إدارة الكشف الأثري الساوي، لكن بالرغم من ذلك، نجحت وزارة الخارجية والسفارة في إسبانيا بوقف بيع ثلاثة تماثيل جنائرية بالتنسيق مع وزارة الخارجية الإسبانية والشرطة الإسبانية واستعادتها الهيئة إلى جانب بندقية السلطان علي دينار (ولد عام 1856 وتوفي عام 1916)، والتي سرقت من متحف بيت الخليفة في أم درمان وعثرت عليها منظمة أركا (ARCA)، الناشطة في مكافحة النهب والاتجار غير المشروع بالآثار في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
عقوبات غير رادعة
تحظر المادة السادسة من قانون حماية الآثار السوداني لعام 1999 في بندها الأول على أي مالك أرض التصرف في الآثار الموجودة في باطنها أو على سطحها ولا يحق له التنقيب عن الآثار فيها إلا بموافقة الهيئة، ويعاقب كل من ينقب أو يتصرف في الآثار بالسجن مدة لا تتجاوز خمس سنوات أو بالغرامتين معا بحسب البند الثاني من المادة ذاتها، وجرمت المادة (33) من القانون القيام بأي نشاط أثري دون ترخيص، ونصت على أن "كل من يقوم بعمليات مسح أو بحث أو تنقيب عن الآثار أو يساعد أو يحرض على ذلك أو يتعدى على أرض أثرية أو موقع أثري مسجلين أو ينقل آثارا من مكان إلى آخر داخل السودان بدون رخصة يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن ثلاث سنوات أو بالغرامة أو بالعقوبتين معا".
ويصف المحامي والمستشار القانوي في وزارة العدل، والباحث في التشريعات المتعلقة بالآثار، الصادق أحمد مفرح، القانون الساري بالضعيف وغير الرادع إذ لا يواكب مستوى الجرم، حتى أن جريمة السرقة لم ترد فيه، ما يساهم في الإفلات من العقوبة، إلى جانب غياب آليات الحماية الوطنية، من نيابات ومحاكم متخصصة فضلا عن أن الشرطة ينقصها التدريب والتأهيل والإمكانيات، كما يوجد قلة وعي ثقافي بالتراث المادي وغير المادي، والمؤسف أن الآثار السودانية تزين أكثر من 187 متحفا في أوروبا والأميركتين ولكن إعادتها عملية طويلة ومعقدة ولا يوجد تقدم حقيقي فيها.