يناضل سودانيون من أقليات متنوعة لاسترداد ممتلكاتهم المنهوبة في عهد نظام البشير، عبر مسارات قانونية لم تثمر بعد بعودة حقوقهم، في ظل تعقيدات تغيير الأوضاع على الأرض ومماطلة جهات مختصة في تنفيذ قرارات القضاء.
- لم تستطع الفيرا ماري أندراوس استعادة بيت والدتها المتوفاة في وحدة الخرطوم شرق الواقعة وسط العاصمة السودانية، منذ صدور قرار سلطات ولاية الخرطوم عام 2008، باستقطاع أجزاء من المنزل البالغة مساحته 1033 مترا، "بمبرر توسعة الشوارع القريبة منه، إذ تم وضع حواجز حديدية في الداخل وأغلقت أبواب الغرف، باستثناء فناء المنزل الذي أعيش فيه"، كما تقول لـ"العربي الجديد". وعلى الرغم من صدور قرار قضائي بوقف تنفيذ المصادرة واستقطاع أجزاء من المنزل، تخشى أندراوس من عدم الحصول على حقها الضائع بعد رفض سلطات الخرطوم الحكم القضائي، وهو ما تؤكده المحامية سعاد أحمد، التي تترافع في القضية، قائلة: "الفيرا ورثت المنزل من أمها ذات الأصول التركية والتي كانت مدعية أولى، ويجب إعادة حقوقها إليها".
وتعمل المحامية أحمد على مقاضاة حكومة السودان ومن استولوا على عقارات الأقليات التي سبق أن كان أفرادها في السودان، إذ تجمع التوكيلات المطلوبة من المغادرين عبر من تبقى من أسرهم، حسبما تقول لـ"العربي الجديد".
كيف تمت عمليات المصادرة؟
ينظم قانون تسوية الأراضي وتسجيلها الصادر عام 1925 شؤون الملكية في السودان، ويجيز القانون نزع ملكية الأرض للمصلحة العامة مع منح المالك تعويضا مجزيا. لكن أراضي وعقارات مملوكة لبعض أبناء الأقليات، صودرت دون تطبيق صحيح القانون، كما يقول المحامي حاتم الياس، عضو قوى إعلان الحرية والتغيير والأمين العام لمجلس حماية حق المؤلف، لـ"العربي الجديد"، وهو ما وثقه معد التحقيق عبر قرارات حكومية بمصادرة ممتلكات سودانيين مسيحيين، مثل النادي الكاثوليكي، الذي جرى تحويله إلى مقر لحزب المؤتمر الوطني، أو مصادرة مدرسة الأرثوذكس في مدينة بورتسودان، والمدارس الإنجيلية بمدينة القضارف، وهو ما أكده رأفت سمير مسعد، رئيس مجلس الطائفة الإنجيلية بالسودان ومسؤول إداريات الكنيسة، قائلا لـ"العربي الجديد": "بعد الضغوط الدولية التي تعرض لها النظام السابق تحولت المصادرة المباشرة إلى قرارات بنزع الملكية بحجة إعادة التخطيط، ثم لجأ في مرحلة ثالثة إلى تعيين أشخاص عنوة في الكنائس للتصرف نيابة عنه في ممتلكاتها، كما حدث مع كنيسة المسيح السودانية".
قرار آخر صدر في الثاني عشر من مايو/ أيار 2013، عبر مدير جهاز الأمن والمخابرات الوطني، محمد عطا المولى عباس، برقم 26، حصلت "العربي الجديد" على نسخة منه، وقضى بالحجز على 16 قطعة أرض سكنية وزراعية، استنادا إلى أحكام المادة 25 (د) من قانون الأمن الوطني لسنة 2010، والتي تضمنت: (أ) طلب المعلومات أو البيانات أو الوثائق أو الأشياء من أي شخص والاطلاع عليها، أو الاحتفاظ بها، أو اتخاذ ما يراه ضرورياً أو لازماً بشأنها، (ب) استدعاء الأشخاص واستجوابهم وأخذ أقوالهم.
قرارات المصادرة خالفت القانون المنظم للملكية في السودان
وشمل القرار حجز أرض فيولا زكريا كندا (تقيم بالبرازيل حاليا)، والمسجلة برقم 453 في مربع 19 بمنطقة بحري، شمال العاصمة، على مساحة 216 مترا، وفق تأكيدها، مشيرة إلى أن جهاز المخابرات استدعاها حينذاك، وأخذ شهادة ملكية الأرض منها قبل أن يتم الحجز عليها لدى سلطات الأراضي، ما منعها من حق التصرف بالأرض. وتابعت في إفادتها لـ"العربي الجديد": "أوكلت شقيقي في السودان لمتابعة القضية، لكنه لم يصل إلى شيء حتى الآن، رغم سقوط نظام عمر البشير الذي استولى على الأرض".
ويتهم هاني فائز، عضو الكنيسة القبطية بأم درمان، سلطات النظام السابق بمصادرة 75 فداناً ومدرسة القديس موسى الأسود بمدينة دار السلام في منطقة جبل الأولياء (قرية في الجزء الشمالي الأوسط من السودان)، مؤكدا لـ"العربي الجديد"، أن السلطات حاولت تعويضهم بعد احتجاجهم، لكن أهالي المنطقة اعترضوا بالأسلحة البيضاء عند الذهاب لاستلام التعويض، فضلا عن تعويضهم بأرض في منطقة المرخيات بأم درمان، غربي ولاية الخرطوم، بدلا من كنيسة قديمة مصادرة في مدينة سوبا، جنوب الخرطوم، تم توزيع مساحتها على السكان، لكن أرض التعويض كانت في منطقة بلا سكان، كما يقول، بينما يوثق قرار صادر في السادس من أغسطس/ آب 2013 حجز قطعة أرض مسجلة باسم أشرف سمير مسعد، برقم 280/2 في ولاية الجزيرة، مركز الباقور (مربوع السبيل)، وفق قرار رقم (26 لسنة 2013) صادر عن جهاز الأمن والمخابرات الوطني، والذي حصلت "العربي الجديد" على نسخة منه.
استغلال النفوذ
يعود تاريخ الأقليات (الأقباط والأرمن واليهود) بمدينة الخرطوم إلى دخول جيش محمد علي باشا إلى السودان في عام 1821، لكنهم تعرضوا لمضايقات كثيرة من قبل نظام الرئيس المعزول عمر البشير، وهاجروا إلى أميركا وأوروبا وأستراليا، حسبما يقول الدكتور فتح الرحمن التوم، أستاذ فلسفة التاريخ بجامعة النيلين، مضيفا في حديث لـ"العربي الجديد"، أن اليهود هاجروا بكثافة بعد عام 1983، ثم تصاعدت هجرتهم بعد استيلاء عمر البشير على السلطة في يونيو/ حزيران 1989، ومنذ ذلك الحين استولى نافذون على منازل الأقليات المهجورة، كما يقول المحامي الياس، وهو ما تؤكده زميلته سعاد أحمد، لافتة إلى أن عملية الاستيلاء على الأراضي والعقارات تم بعضها عبر التزوير في مستندات ملكية تلك العقارات وبيعها عبر محامين، شاركوا في تلك الجرائم. وشملت تلك العمليات مربعات كاملة في منطقة الخرطوم شرق، إذ تحولت إلى مقار حكومية في عهد البشير وسكن لكبار موظفي الدولة.
المصادرة للجميع
أحصت لجان المقاومة والتي آلت إليها بعض الصلاحيات الخدمية ومساعدة السلطات في مراقبة الأمن في حي الخرطوم شرق 17 منزلاً مهجورا لا يعلمون ملاك بعضها، وفق عمار أحمد، وهو أحد شبان لجان المقاومة في الحي، الذي قال لـ"العربي الجديد": "تلك المنازل باتت أوكارا للمجرمين، وتستغل بطريقة غير قانونية في بيع وتوزيع الخمور".
ويقلل عبد الله التوم، مدير الشؤون الإدارية والمالية في وزارة التخطيط العمراني بولاية الخرطوم، من حجم العقارات المهجورة والتي تم التعدي عليها، كاشفا لـ"العربي الجديد"، عن تشكيل لجنة في عام 2019، تقوم بحصر العقارات المهجورة وتقديم توصيات بشأنها بموجب قانون التخطيط العمراني واللوائح المنظمة، وقال: "إن أي عقار أو قطعة أرض مملوكة لأفراد لا يمكن التصرف بها مطلقاً، فقط بإمكان الوزارة التصرف في أراضي منحت لجهات حكومية بإعادة تخصيصها أو بيعها في المزاد العلني. وتذهب قيمتها لصالح الدولة".
السودان دخل قائمة الدول التي تنتهك الحرية الدينية وتضطهد الأقليات
ويرد المحامي الشيخ النذير الطيب، القيادي في حزب المؤتمر الوطني المحظور، وعضو هيئة الدفاع عن البشير، عما سبق نافيا تورط نظام البشير في مصادرة ممتلكات الأقليات ودور عبادتهم، ويقول إن أغلب المصادرات التي تمت كانت وفقاً للقانون، إما بأحكام قضائية أو بقرار من رئيس الجمهورية للمصلحة العامة، وهو حق كفله الدستور على أن يقابل بتعويض مجز للشخص أو الجهة التي صودرت ملكياتها، مضيفا في حديث لـ"العربي الجديد"، أن المصادرات القانونية كلها لم تستند إلى الهوية الدينية، بدليل أن مسلمين صودرت عقاراتهم وممتلكاتهم. ونفى مصادرة حزب المؤتمر الوطني للنادي الكاثوليكي، بالقول: "هذا لا يمت للصحة بصلة، لأن الحزب اشترى المقر من حر ماله"، وأضاف أن قرار إزالة بعض الكنائس جاء نتيجة لتشييدها بطريقة عشوائية، وهو أمر تقابله سلطات الدولة المختصة بالإزالة وإعادة التخطيط، لكنه يشير إلى أن القضاء السوداني أتاح لكثير من الأقليات استئناف قرارات المصادرة الإدارية، وحصل بعضهم على أحكام لصالحهم.
غير أن فيلمون حسن، راعي ورئيس الكنيسة المعمدانية الإنجيلية، يؤكد أن جهاز الأمن والمخابرات الوطني في العهد السابق ظل يماطل في إجراءات تنفيذ حكم المحكمة القومية العليا حول ملكية الأرض التي اشترتها الكنيسة في منطقة بحري شمال بمساحة 524 مترا، مشيرا إلى أنهم حاليا بصدد إكمال إجراءات تنفيذ حكم المحكمة وينتظرون عودة حقوقهم إليهم، حسب قوله لـ"العربي الجديد".
محاولات حكومية لمواجهة الظاهرة
يقول وزير الشؤون الدينية والأوقاف نصر الدين مفرح إنه بدأت عملية حصر عقارات في منطقة الخرطوم القديمة بواسطة لجنة لم تكمل عملها بعد، حيث تقوم بحصر كل العقارات والتركات التي لا وارث لها، وظلت مهجورة لسنين بعد مغادرة أصحابها البلاد، مشيرا إلى أن بعض تلك العقارات تم التصرف بها بواسطة عناصر النظام السابق أو مؤسسات الدولة، مضيفا "بعد الحصر سترفع توصية من الوزارة لرئيس مجلس السيادة الانتقالي ورئيس مجلس الوزراء لاسترداد تلك الملكيات وتحويلها لهيئة الأوقاف للاستفادة من ريعها لصالح الفقراء والمساكين، وفي حال رجع أصحابها الحقيقيون أو الورثة ستتم إعادتها لهم".
وتعهد مفرح بالعمل على مساعدة الطوائف الدينية لاسترداد حقوقها وممتلكاتها التي صادرها النظام البائد، مشيرا إلى أن القضية تسببت في دخول السودان ضمن الدول التي تنتهك الحرية الدينية وتضطهد الأقليات، داعياً من لديه وثائق تثبت ملكيته لأي عقار أو أرض تمت مصادرتها إلى الحضور للوزارة وتقديم مظلمته. لكن الرئيس المناوب للجنة إزالة التمكين ومحاربة الفساد واسترداد الأموال محمد الفكي سليمان، يقول لـ"العربي الجديد"، إن اللجنة معنية باسترداد الممتلكات العامة، أما الممتلكات الخاصة التي صودرت بواسطة النظام السابق، فلا يمكن أن تتدخل فيها اللجنة، لأن مكانها القضاء.