تزدهر المراهنات غير القانونية على سباقات الخيول في تونس التي تمتلك الدولة فيها شركة حكومية تحتكر القطاع، لكن محاولة تحصيل إيرادات جديدة، انعكست على تراجع الاستثمار في تربية قطعان الجياد وتفاقم النشاط الموازي.
- اضطر مربى الخيول التونسي أحمد مهداوي، إلى بيع نصف قطيعه المكون من 20 جوادا بينها سلالات عربية وبربرية أصيلة، بسبب ما تكبده من خسائر عقب عجز شركة سباق الخيل (مؤسسة عمومية تشرف على رهانات منظمة من الدولة) عن سداد مستحقاته من عوائد السباقات التي شاركت فيها جياده خلال فترات مختلفة بإجمالي 50 ألف دينار (15.9 ألف دولار).
وتمول الشركة الحكومية أنشطتها من عوائد السباقات، لكن ازدهار الرهان غير القانوني دفع المشاركين إلى هجر فعاليات الشركة الحكومية والانتقال إلى السباقات الموازية لتعظيم أرباحهم، خاصة بعد إقرار الحكومة ضريبة على ألعاب الرهان الرياضي بقيمة 25% من أرباح الفائزين عام 2015، في محاولة لتحصيل إيرادات جديدة، ما عمّق الأزمة وفتح الباب على مصراعيه أمام الأنشطة غير القانونية، بحسب مصادر التحقيق الذين التقتهم "العربي الجديد".
لماذا تحتكر الدولة المراهنات؟
يراهن المشاركون على سباقات الخيل التي تنظمها الشركة في مقرها، أو يشاركون في رهانات على سباقات خيل عالمية داخل مقر الشركة الحكومية كما يوضح مدير عام شركة سباق الخيل حاتم المرناوي.
تحتكر الدولة التونسية المراهنات على الخيول
وتحتكر الدولة قطاع الرهانات لمكافحة الإدمان على النشاط، كما يقول المرناوي، والذي أشار إلى قواعد صارمة تأخذ بعين الاعتبار العديد من العوامل منها عدم تكثيف النشاط بطريقة عشوائية، أو تحول المشاركين إلى مدمنين على الرهان يفقدون أموالهم مثلما هو الحال في القطاع الموازي الذي لا يخضع لأي ضوابط، ويحقق القائمون عليه أرباحا طائلة من أموال المتراهنين الفائزين وغير الفائزين الذين يتقاطرون يوميا على تلك المحلات، كما تحتكر الدولة الأمر لمنع ما قد ينبع من تداول أموال في قطاع مواز، إذ إن السوق السوداء خارج رقابة الدولة وبالتالي يمكن أن تستثمر أرباحها بطرق غير قانونية ما يجعلها تحت طائلة تهم تبييض الأموال، أو قد تهرّب إلى الخارج وفق إفادة المرناوي.
وتعتمد شركة سباق الخيل لتمويل نشاطها على الموارد المتأتية من الرّهان على سباقات الخيول بنسبة 96 بالمائة من مجموع مداخيلها، فيما تجمع 4 بالمائة من مواردها الذاتية لقاء الخدمات التي تقدمها للمربين والمالكين مثل إيجار الإسطبلات وغيرها، بحسب رد مكتوب من شركة سباق الخيل وصل إلى "العربي الجديد"، وحين لجأت إلى فرض الضريبة على أرباح المتراهنين لزيادة مداخيلها ثم تراجعت بعد عامين، لم يتمكن القطاع من استعادة سالف نشاطه، نظرا لتأقلم المتراهنين مع الرهان في القطاع الموازي، وفق المرناوي.
ازدهار القطاع غير القانوني
نفذ سلك الأمن الوطني 20 ضبطية على محال وشركات لتعاطي الرهان الرياضي دون رخصة خلال الفترة من 18 مارس/آذار 2018، وحتى 14 ديسمبر/كانون الأول 2022، وصادر 5 ملايين دينار تونسي، أي ما يعادل مليون و598 ألف دولار أميركي، بحسب ما وثقته معدة التحقيق عبر موقع وزارة الداخلية، ومن بين هذه الحالات توقيف صاحب محل معد لتعاطي نشاط الرهان الرياضي الإلكتروني دون رخصة بتهمة "غسل الأموال" في ديسمبر 2022، إذ أمرت النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية في الكاف بحجز مبلغ قدره 1800 دينار (576 دولارا)، وحاسوب محمول ووصولات إيداعات بنكية بقيمة 32500 دينار (10388 دولارا)، وسيارة، كما تم حجز مبلغ مالي داخل السيارة قدره 3600 دينار (1151 دولارا)، وبتفتيش منزله تم الحجز على مبلغ مالي قدره 120 ألف دينار (38357 دولارات).
ويقرّ مدير شركة سباق الخيل بأن الضريبة التي فرضت على أرباح المتراهنين لزيادة مدخول الشركة أثرت بشكل عكسي إذ تسببت في تراجع العائدات إلى أكثر من النصف نظرا لانسحاب المتراهنين إلى القطاع الموازي، وحتى بعد إلغائها عقب عامين، لم يتمكن القطاع من استعادة سالف نشاطه، ما سبب عجزا كبيرا في ميزانية الشركة، ولم تعد قادرة على تغطية مستحقات المالكين وتأمين حصصهم من عوائد أرباح السباقات، كما أصبحت الشركة مدينة للمالكين والمربين، كما أن زخم ألعاب الرهان الإلكترونية أثر أيضا على النشاط الرسمي المنظم إذ أصبحت الرهانات أسهل من خلال الهواتف الذكية ضمن مسابقات في الخارج، وفق قوله.
انسحب المتراهنون إلى القطاع الموازي عقب فرض ضريبة 25%
وحسب أحدث البيانات الصادرة عن شركة سباق الخيل فقد بلغت أعلى نسبة أرباح حققتها الشركة نحو 10 ملايين دينار (3 ملايين دولار) عام 2015، بينما تقلصت عوائدها إلى النصف أي 5 ملايين دينار (مليون و598 ألف دولار) عام 2022، نتيجة خسارتها خاصة أن المتراهنين وجدوا في السوق الموازي مرابح أعلى، وكذلك يكونون في منأى عن أي حرج قد يواجهونه نتيجة اعتبارات دينية واجتماعية نابعة عن مشاركتهم في الرهانات، ومن بينهم نزار الصافي (اسم مستعار لمشاركته في نشاط ممنوع قانونيا)، والذي هجر الرهان المنظم على سباقات الخيل، واندمج في الرهان غير القانوني، كما يقول لـ"العربي الجديد"، : "هجرت الرهان في القطاع المنظم حينما تمّ فرض ضريبة على أرباح المتراهنين الفائزين، في هذه الحالة وجدت الخيار الأمثل في القطاع الموازي بحيث أفوز وأضع كل الأرباح في جيبي".
وبات القطاع الموازي يحتضن أغلب أنشطة الرهان في مسابقات الخيول، ويبتلع حوالي 50% من النشاط الرسمي، ما دفع السلطات إلى العمل على إعداد قانون جديد لتنظيم الرهان وألعاب الحظ والمال، كما يقول المرناوي.
ما سبق، توثقه معدة التحقيق عبر صور خلال جولة ميدانية بتاريخ 15 يناير/كانون الأول 2023، في الساحة المخصصة للرهانات داخل شركة سباق الخيل، إذ كان هناك أعداد قليلة في طابور المتراهنين المشاركين في المراهنات الرسمية.
تراجع الاستثمارات في تربية وسباقات الخيول
انعكس مناخ الكساد والركود الذي خلفه استفحال الرهان الموازي على حجم الاستثمارات في قطاع تربية الخيول، وهو ما تؤكده بيانات رسمية حصلت عليها "العربي الجديد" عبر رد مكتوب من وكالة النهوض بالاستثمارات الفلاحية (حكومية)، إذ بلغ حجم الاستثمار في أنشطة التربية والسباقات خلال عام 2015، أي قبل إقرار الضريبة 545 ألف دينار (173 ألف دولار)، بمقدار ثلاث عمليات استثمارية (أنشطة التربية والسباق) في محافظتي مدنين وتطاوين اللتين تتميزان بأنشطة الفروسية التقليدية، فيما انخفض عام 2016 إلى 407 آلاف دينار حوالي (129 ألف دولار)، مسجلا عملية استثمارية واحدة بمحافظة أريانة، لينتهي به المطاف إلى تسجيل صفر خلال عام 2017 ما يوضح عمق تأثير الضريبة على القطاع، وفي عام 2018 بلغت عمليتان استثماريتان في منوبة ومدنين بقيمة 477 ألف دينار (151 ألف دولار)، وعملية استثمارية واحدة في تطاوين عام 2019 بقيمة 348 ألف دينار (110 ألف دولار)، ولم تسجل اي عملية استثمارية عام 2020، بينما شهد عام 2021 عمليتين في تطاوين بقيمة 282 ألف دينار (89 ألف دولار)، وفي عام 2022 بلغت 3 عمليات في بنزرت ومدنين بقيمة 1.2 مليون دينار (380 ألف دولار).
ويعتبر المحاسب المالي القانوني أنيس وهابي والذي يعمل في مكتب خاص وتستعين الحكومة بخدماته، أن إلغاء الضريبة من طرف الحكومة هو اعتراف منها بالتأثير السلبي لذلك الإجراء على المؤسسات العمومية مثل شركة سباق الخيل وشركة النّهوض بالرياضة (تعرف بـ بروموسبور promosport وتنشط في مراهنات كرة القدم)، غير أن ذلك لم يحّل الاشكال نظرا لعزوف المتراهنين ولجوئهم لألعاب الرهان الإلكترونية العالمية.
وتعزو المؤسسة الوطنية لتحسين وتجويد الخيل (حكومية تُعنى بتربية الأحصنة وتجويدها عبر استقدام بذور وتلقيحها للتحسين الجيني) تراجع الرغبة في الاستثمار بالقطاع إلى تراجع الموارد المخصّصة لسباقات الخيل وارتفاع كلفة الأعلاف واستثنائها من الدعم بالمقارنة بالحيوانات الأخرى، وتضيف في ردها المكتوب على "العربي الجديد" أن عدد الأفراس المنتجة في ازدياد مع بروز بعض المربّين الجدد الّذين لا يزالون يؤمنون بأهمّية تربية الخيول الأصيلة في تونس، مضيفة أنه "يتمّ العمل بكلّ جدّية لإيجاد الحلول المناسبة وذلك من خلال مشاركة مؤسّستنا في الاجتماعات الدّورية لمجالس الإدارة لشركة سباق الخيل والوكالة التّونسية للتّضامن، حيث تمّ وضع استراتيجية لإصلاح منظومة الرّهان ومكافحة الرّهان الموازي".
نفقات عالية تدفع المربين للتفريط بالقطيع
تحتاج الخيول إلى عناية فائقة حتى تحقق قيمة مضافة للمالك ونتائج جيدة في السباقات التي تعد أبرز مصادر العوائد للمربين، بحسب مهداوي والذي يقول أن "المهر الصغير الذي يترواح عمره بين عامين وثلاثة أعوام وغير المهيَّأ للسباق يكلف 350 دينارا (114.14 دولار) شهريا كمصاريف للأدوية والفيتامينات، فيما يكلفني حصان السباق الذي يزيد عمره على ثلاثة أعوام نحو 650 دينارا (211.97)، دون اعتبار مصاريف الأعلاف"، مؤكدا أنه لم يعد قادرا على تحصيل هذه الموارد بعد عجز شركة سباق الخيل عن سداد مستحقاته، واختار بيع القطيع في المزادات العلنية، واصفا ما جري بأنه اضطر "للتفريط في القطيع". ويواجه الأربعيني سعيد الراجحي، وهو مالك خيول في منطقة وادي الليل غرب العاصمة، الحال ذاتها، إذ ينتظر منذ أشهر سداد مستحقاته، لكن شركة سباق الخيل لم تقم بصرفها، "وكانت النتيجة أنه منذ سنوات أنا وغيري من المالكين نبيع خيولنا بأثمان زهيدة بسبب عدم قدرتنا على تحمّل ضغط المصاريف".
ويوضح كاتب عام الجامعة الوطنية لمربي لخيول (منظمة نقابية) محمد شويخي أن "مربين ومالكين اضطروا إلى بيع قطعانهم بفعل عدم قدرتهم على تغطية كلفة الإنتاج، مطالبا السلطات بإنقاذ قطاع الخيل الذي يمثل رافدا هاما للقطاع السياحي والاقتصادي والثقافي"، معتبرا أن "وضعية القطاع بعد تأثره بالضريبة شجعت بروز كبار الموردين الذين استغلوا لجوء المربين لبيع خيولهم ليستحوذوا على القطعان بسلالات مختلفة عبر قنوات عديدة، إما البيع في المزادات العلنية أو التصدير لدول تهتم بأنشطة الفروسية والسباقات".
ويبلغ عدد الخيول العربية الأصيلة الّتي تمّ تصديرها 299 جوادا، خلال الأعوام بين 2015 و2020، بحسب بيانات رسمية حصل عليها "العربي الجديد" من المؤسسة الوطنية لتحسين وتجويد الخيل، والتي تشير إإلى أنه من الطبيعي أن ينتج عن الأزمة المالية الّتي شهدها قطاع سباق الخيل زيادة في العرض، رغم أن شركة سباق الخيل واصلت تنفيذ برامج السّباق بالرّغم من تراجع مواردها وتطبيق المعايير الدّولية الّتي تمكّن من المحافظة على اعتراف المنظّمات الدّولية بنتائج السّباقات وبالتّالي تثمين الخيول التّونسية.
ويبلغ عدد قطيع الخيول التونسية 5176 حصانا من سلالة العربي الأصيل، و1308 أحصنة إنكليزية أصيلة و8500 حصان بربري وهجين (عربي بربري)، بحسب بيانات المؤسسة الوطنية لتحسين وتجويد الخيل لعام 2022 والتي توضح "أنه من الطّبيعي أن تتراجع أعداد الخيول البربرية منذ السّتينيات كما تراجعت أعداد الخيليات (خيول وبغال وحمير) المستعملة في الأشغال الفلاحية والنقل في جميع البلدان، غير أن هذا الرقم يتعارض مع الحقائق التي يقدمها رئيس الاتحاد المهني المشترك للخيول طراد بن قبران، والذي قال إنه "خلال أوائل السبعينيات فقط ولد 8000 خيل بربري أصيل"، ما يعني منطقيا أن هذا العدد قد تضاعف خلال الثمانينيات والتسعينيات والألفينيات بموجب عمليات التكاثر.