كلى للبيع... شبكات اتجار بأعضاء التونسيين تتحايل على القوانين التركية
- حالة حبيب الحسين تبرز اليأس الذي يدفع الناس لبيع أعضائهم، حيث باع كليته لعلاج زوجته، وتورط في شبكة الاتجار بعد التواصل مع سمسار وإجراء العملية في تركيا.
- الظاهرة تعكس مشكلات اقتصادية واجتماعية في تونس، حيث يرى الشباب بيع الأعضاء حلاً يائساً لمشاكلهم المالية، فيما تحاول السلطات مكافحة هذه الشبكات دون حل جذري للأزمة الاقتصادية.
تستقطب شبكات اتجار بالأعضاء تونسيين يمرون بظروف صعبة، عبر سماسرة من جنسيات متعددة، يعملون من خلال صفحات نشطة على موقع "فيسبوك" تطلب "متبرعين" يجري إعداد أوراقهم للتحايل على القوانين التركية، حيث تجرى العملية.
- باع الثلاثيني التونسي، حبيب الحسين، كليته إلى مريض كونغولي الجنسية، مقابل حصوله على 45 ألف دينار تونسي (14.330 دولاراً أميركياً)، كان في أمس الحاجة إليها لتوفير نفقات علاج زوجته المصابة بسرطان في الرأس.
وأجريت العملية بمشفى تركي خاص في أغسطس/آب 2020، عقب اتفاق الحسين مع نجل متلقي الكلية، الذي وصل إليه عبر سمسار مغربي يدعى سلمان، كان قد رد على طلبه المرسل إلى صفحة "متبرعين كلى بمقابل مادي" في يناير/كانون الثاني التي تنشط على موقع "فيسبوك"، وبعد 4 أشهر من الرسالة جاءه الرد بالموافقة في إبريل/ نيسان، كما روى لـ"العربي الجديد".
وحصل نجل متلقي الكلية على صورة من جواز سفر الحسين، من أجل ترتيب إجراءات سفره، ولدى وصوله إلى مدينة أنقرة قدم الطرفان للمشفى عقد قران قديم بين الحسين وابنة المتلقي، صادر عن السلطات المختصة في الكونغو، ويعود تاريخه إلى عام 2017، تحاشياً لمخالفة قانون زراعة الأعضاء والأنسجة التركي رقم 2238، الذي "يحظر التبرع بالأعضاء من أشخاص لا يملكون أي صفة مميّزة للمتبرع، كرابطة الدم أو الزواج"، كما "يحظر التبرع بالأعضاء مقابل الأجر"، وهو ما تصفه القاضية روضة العبيدي، الرئيسة السابقة للهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص (حكومية)، بالتحايل على القانون التركي، قائلة لـ"العربي الجديد" إن الهدف من عقد المصاهرة هو تسوية الوضعية القانونية، لكي تبدو العملية وكأنها تبرع في إطار العائلة.
ومن خلال الحالات التي اطّلعت عليها العبيدي، وتفاصيل قضية الحسين، أوضحت أن التحضير للعملية يستغرق ما بين ثلاثة وخمسة أشهر، ويبدأ الأمر من استقطاب الضحايا، ثم جمع المعطيات عنهم، وإجراء التحاليل والفحوصات اللازمة بمصحات خاصة، وعرضها على لجنة طبية تفحص ملف المتبرع، للتأكد من عدم وجود موانع طبية، وفي حال كانت الفحوصات سلبية، يتسلم مبلغ ثلاثة آلاف دينار (955 دولاراً) قبل عودته إلى تونس.
كيف يجري استقطاب الضحايا؟
ينشط سماسرة من جنسيات عدة، بينهم مغاربة وسوريون وأردنيون وموريتانيون، عبر "فيسبوك" لاستقطاب من يسعون إلى بيع أعضائهم، في مقابل مبالغ مالية تتراوح بين 15 و20 ألف دينار (4776 و6368 دولاراً)، وفق ما يؤكده لـ"العربي الجديد"، مساعد وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بالقصرين رياض النويوي، وكذلك تفاصيل حالة الحسين، الذي ظل يبحث بين صفحات "فيسبوك" عمن يشتري كليته، إلى أن اهتدى للصفحة التي يتابعها أربعة آلاف متابع.
ورصدت معدة التحقيق خمس صفحات ومجموعات على "فيسبوك"، تنشط في تجارة الأعضاء، ومنها صفحة "مطلوب متبرعين كلى وكبد" التي يتابعها ثلاثة آلاف متابع، و"مطلوب فوراً متبرعين بالكلى بمقابل مادي"، ويتابعها ألف متابع، ومجموعة "بيع كلى مقابل مادة" تضم 359 عضواً، وهي المجموعة التي تواصل معها التونسي أنيس، (اسم مستعار للمحافظة على خصوصيته)، من أجل عرض كليته للبيع، كما روى لمعدة التحقيق التي التقت به في ولاية سوسة، الواقعة وسط شرق تونس، قائلاً إنه تلقى رداً من سمسار أردني، زوّده برقمه عبر تطبيق "واتساب" وطلب منه المتابعة عبره، ويضيف أنه زود الوسيط بجواز سفره، وسافر في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 إلى تركيا، لكن الفحوصات التي أجراها في مشفى خاص أثبتت عدم تطابق النتائج مع تحاليل المتلقي.
عقب ذلك اقترح السمسار الأردني على أنيس أن يعمل معهم لاستقطاب ضحايا تونسيين، مقابل الحصول على ألف دولار عن كل شخص، وبالفعل استقطب أربعة أشخاص من ولايات سيدي بوزيد وسط تونس، وبنزرت شمالاً، والمنستير (شمال شرق)، والمهدية حيث يعيش وسط تونس.
وبعد استقطاب الضحايا وإتمام إجراءات وأوراق سفرهم إلى تركيا، يلتقي أنيس بهم قبل سفرهم بساعات في مطار تونس قرطاج ويمدهم بشريحة هاتف تركية، تمكنهم من التواصل مع السمسار الأردني الذي يستقبلهم في تركيا، موضحا أنهم يستهدفون الشباب في عمر العشرينيات حتى تكون أعضاؤهم مناسبة من الناحية الصحية، مع التركيز على العاطلين عن العمل، نظراً لوضعهم المادي وحالتهم الاجتماعية.
دوافع نفسية واقتصادية تسهّل استقطاب الراغبين في بيع أعضائهم
وتستدرج شبكات دولية الضحايا من خلال منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، تعلن فيها عن الحاجة إلى متبرعين للكلى، مقابل الحصول على المال، كما تؤكد القاضية العبيدي، ومن بين تلك المنشورات المتكررة التي رصدتها معدة التحقيق على صفحات "فيسبوك"، "مطلوب متبرعين من كل فصائل الدم وبأسعار مغرية مع دفع مصاريف الإقامة"، و"مطلوب ثلاثة من فصيلة O موجب وأربعة A موجب واثنين B موجب"، المنشور على صفحة "مطلوب فوراً متبرعين بالكلى بمقابل مادي" على "فيسبوك" في 14 مارس/آذار 2024، وفي منشور آخر جرى الحديث حول "إمكانية التواصل والاستفسار عن متبرعين أو التسجيل كمتبرع على الخاص وسيتم الرد فوراً".
شبكات منظمة تعمل عبر تونس وتركيا
بعد تماثل الحسين للشفاء، تسلّم المبلغ المتفق عليه، وعاد إلى تونس في 20 سبتمبر/أيلول 2020، لكنه فوجئ بمداهمة الشرطة التونسية منزله والقبض عليه، وإيقافه لمدة ثلاثة أيام على ذمة القضية، مع حجز 12 ألف دينار (3800 دولار)، عقب شهر من وصوله، وتحديداً في 28 أكتوبر/ تشرين الأول، قبل أن تقرر الشرطة إطلاق سراحه، لإثباته الزواج من ابنة المتلقي، وهو ما يؤكده الناطق الرسمي السابق باسم المحكمة الابتدائية بزغوان، سامي بن هويدي، قائلاً لـ"العربي الجديد": "تقرر الإفراج عن الحسين لأن القانون التركي يجيز التبرع للأقارب".
لكن قضية الحسين، أثارت انتباه السلطات، وجرى الكشف عن شبكات تتاجر بالأعضاء بين تونس وتركيا، وفق ما وثقته معدة التحقيق، عبر بيانات الشرطة التونسية التي أعلنت عن خمس عمليات ضبط لشبكات للاتجار بالأعضاء خلال الفترة من 2020 حتى 2023، ومنها شبكة إجرامية دولية تنشط في مجال الاتجار في الأعضاء البشرية بين تونس وتركيا جرى الكشف عنها في 25 نوفمبر 2021، وفق ما أعلنه مكتب الاتصال بالمحكمة الابتدائية بتونس، موضحاً، في بيان، صادر عنه أن النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية في تونس فتحت محضراً ضد عشرة أشخاص استقطبوا ضحايا، مستغلين ظروفهم الاقتصادية.
وفي الثاني عشر من أغسطس 2023، كشفت وحدات الحرس الوطني التونسي عن شبكة يترأسها شخص أجنبي الجنسية، موجود خارج تونس، ويُعاضده في نشاطه الإجرامي وسيطان أجانب، وأربعة وسطاء تونسيين، نشطوا في مجال تجارة الأعضاء والاتجار بالبشر بين تونس وبلد أجنبي منذ 2018، بحسب بوابة وزارة الداخلية التونسية على الإنترنت، التي أكدت إلقاء القبض على الوسطاء التونسيين، وكذلك توقيف ثلاثة أشخاص سافروا خارج حدود الوطن للاتجار بأعضائهم.
وهو ما يؤكده النويوي، مشيراً إلى أن هذه الشبكة تعتمد في ممارسة نشاطها على الوسطاء والسماسرة من تونس وخارجها، محدداً عمولة السمسار بما يتراوح بين 1500 دينار (477 دولاراً) وثلاثة آلاف عن كل شخص يجلبه.
لماذا يسافر الضحايا إلى الخارج؟
"يستحيل المتاجرة بالأعضاء في تونس"، كما يجزم الدكتور جلال الدين الزيادي، مدير المركز الوطني للنهوض بزرع الأعضاء (حكومي)، لأن زراعة الأعضاء تجرى في مستشفيات عمومية مختصة، ومرخص لها بناء على القانون الأساسي رقم 61 لسنة 2016 المتعلق بمنع الاتجار بالأشخاص ومكافحته، والذي حدد شروط وآليات التبرع والانتفاع بالأعضاء، محذراً من يبيعون أعضاءهم بأن أي عملية استئصال تجري خارج القانون تعرّض صاحبها الذي يحتاج لمتابعة قبل وبعد العملية لمخاطر ومضاعفات صحية.
وأجريت 52 عملية زراعة أعضاء قانونية في تونس، بينها 33 عملية زراعة كلى، و12 عملية زراعة قلب، وسبع عمليات زراعة كبد، خلال عام 2022، بينما يحتاج 1700 مريض إلى زراعة كلى، و40 لزراعة قلب، وما بين 40 إلى 50 يحتاجون إلى زراعة كبد.
ويحظر القانون رقم 61 كل أشكال الاستغلال التي يمكن أن يتعرض لها الأشخاص، بحسب المحامي أنيس بوغطاس، (لديه مكتب خاص بالعاصمة)، مشيراً إلى أن الاستغلال، يشمل نزع الأعضاء أو الأنسجة أو الخلايا أو الأمشاج أو الأجنة أو جزء منها، أو غيرها من أشكال الاستغلال الأخرى، وفق الفصل الثاني من هذا القانون. ورغم العقوبات التي يفرضها القانون رقم 61، فإن استقطاب الضحايا التونسيين يظل مستمراً، وفق مصادر التحقيق.
وتدفع أسباب نفسية واقتصادية ومجتمعية الضحايا إلى القبول بفقدان عضو من جسدهم، كما يقول الدكتور سامي نصر، أستاذ علم الاجتماع الإجرامي في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، والذي يعد بحثاً حول دوافع ضحايا شبكات الاتجار بالأعضاء، مؤكداً لـ"العربي الجديد" أن الأزمة الاقتصادية التي تمرّ بها البلاد، تسهّل من استقطاب الضحايا، فضلاً عن ألم نفسي ووضع مجتمعي خانق يمرون به يجعل جسدهم لا قيمة له في نظرهم، رغم أن ما يقومون به بمثابة اعتداء على الذات.
%16.6 نسبة الفقر في تونس خلال عام 2021
وبلغت نسبة الفقر في تونس 16.6 بالمائة في عام 2021، مقابل 15.2 بالمائة سنة 2015، وفق المسح الوطني حول الإنفاق والاستهلاك، ومستوى عيش الأسر لسنة 2021، الصادر عن المعهد الوطني للإحصاء (حكومي)، لكن على الرغم من التضحية بعضو من جسدهم، تفاقمت المعاناة المعيشية للضحايا بعد عودتهم إلى تونس، إذ يجدون أنفسهم بلا عمل يمكنهم من تلبية احتياجات أسرهم، بعد إنفاق ما جنوه، جراء بيع أعضائهم، كما هو الحال مع الحسين، الذي يقول: "ضحيت بكليتي من أجل زوجتي، لكنها توفيت في النهاية".