يٌحمل الطبيب العراقي والباحث في علم الأدوية والسموم بالجامعة المستنصرية، علي هاني العلاق، نظام الرعاية الصحية المتهالك، مسؤولية خلق "فوضى كارثية" تسببت في حلول بغداد بالمركز الأول عربيا من حيث عدد الوفيات الناتجة عن كورونا، إذ سُجلت 9852 وفاة حتى 11 أكتوبر/تشرين الأول 2020، رغم أن العراق لا يعد الأكبر في عدد السكان أو حتى عدد الإصابات النشطة بالفيروس وتلته في عدد الوفيات مصر بـ 6040 وفاة، ثم السعودية التي سجلت حتى التاريخ ذاته 5043 حالة وفاة بالفيروس.
ويبدو تردي وضع قطاع الرعاية الصحية في تعدد حالات الأطباء ممن يدعون الوصول إلى علاجات، يوثق التحقيق كونها وهمية وذات ضرر بالغ على من يعانون من المرض في ظل تراخ رسمي لم يئد الظاهرة في مهدها، وهو ما يؤكده علي هادي الماجدي، الطبيب العام المقيم في مستشفى الشيخ زايد الحكومي ببغداد من واقع عمله، معتبراً أن تراجع ثقة المواطن بالقطاع الطبي الحكومي وتراخي الجهات المسؤولة كان سببا رئيسيا في انسياق المرضى وعائلاتهم لادعاءات الأطباء ممن يزعمون توصلهم لعلاج فيروس كوفيد-19.
علاجات وهمية
وثقت معدة التحقيق لجوء 15 مريضا بكورونا توفى منهم لاحقا 9 حالات بعد استعمال العلاجات الوهمية التي روج لها أطباء عبر وسائل التواصل الاجتماعي، من هؤلاء الدكتور أمجد الحمداني، اختصاصي مفاصل وكسور، والذي ادعى في منشورات على حسابه، امتلاكه خطة للوقاية وعلاج كوفيد-19 عن طريق التبخير بدواء "زالوكين" (جل مخدر موضعي).
وبحسب تأكيد عائلات 5 مصابين لجأوا إلى الحمداني، عدم معاناتهم من أي أمراض مزمنة، إلا أن حالتهم الصحية تدهورت أثناء العلاج، ومنهم العشريني مصطفى سمير، الذي ثبتت إصابته في 10 أغسطس/آب 2020، وفق شقيقه ياسين، والذي قال :"أخي بدأ باستخدام جل زالوكين بعد أن قرأ على صفحة صديقه منشورا نقله عن الحمداني يفيد بأن استخدام الجل مفيد، إذ يتم دهن أنف المصاب كل ساعة، لتقليل الأعراض، كما يدهن لغير المصابين من أجل حمايتهم من كورونا"، وفعلا، أحضره سمير من الصيدلية، دون أن يمتنع الصيدلي عن بيعه بل أخبره أنها "مادة لاقت طلبا هائلا خلال اليومين الماضيين اعتقادا من الناس أنها تعالج المصابين بكورونا وتحمي من الإصابة"، ويضيف سمير أنه وعائلته استخدموه للوقاية أيضا، لكن مصطفى تدهورت حالته بعد 5 أيام، بسبب ضيق التنفس، ما اضطرهم إلى نقله إلى مشفى اليرموك التعليمي في بغداد ليتم وضعه على جهاز الأوكسجين.
حينها، كان وجه مصطفى وأطرافه زرقاء اللون، وبحسب الأطباء في المشفى كانت تلك أعراض الانخفاض الشديد للأوكسجين في الدم، ما أدى إلى وفاته عقب 6 أيام من استخدام الوصفة، وفقا لشقيقه المحزون.
وفي رده على "العربي الجديد" يقول الحمداني أن جل "زالوكين" أثبت فعاليته من قبل مع الربو والسعال المزمن الذي يستمر لمدة 6 أشهر، وأثبت فعاليته في علاج كورونا داخل العراق وخارجه، إما كجل يدهن في الأنف لمنع أي وباء تنفسي، أو تبخيره، وهو آمن لكل الحالات والأعمار ما عدا المرضى الذين يعانون عجزا في الكبد، كما يقول، مدعيا أن غالبية الحالات التي يصفه لها تتحسن بعد 3 أيام، مشيرا إلى أنه أجرى دراسات عن زالوكين في 2018، وبعد استخدامه لدى انتشار كورونا عاد لنشر مقالة عن نجاعته في علاج كوفيد-19 لتثبيت اسمه كـ"مكتشف للعلاج"، حسب قوله، مستندا في ذلك إلى أن سبب الألم عدم انتظام عمل قنوات الصوديوم في الأعصاب.
ويعمل زالوكين كمنظم لتلك القنوات، من خلال ذوبانه في شحوم غشاء العصب وانتشاره الذي يعمل على انسداد بوابات الصوديوم، وبعد نحو ساعة تفتح من جديد وتعود لعملها الطبيعي فيزول الألم.
لكن الدكتور أحمد كمال، أخصائي الأمراض الصدرية والتنفسية في بغداد، يوضح أن هذا التأثير يحدثه زالوكين على قنوات الصوديوم فعلا، غير أن إمكانية استغلاله للحماية من كوفيد-19 أو معالجته لم تثبت علميا، ولا يمكن توظيف كل تأثير دوائي مثبت في المختبر لعلاج أي مرض، مشيرا إلى أن اعتماد علاج ما، يتم وفق بروتوكول معين لتثبت نجاعته، وإقرار أي دواء يمتد لسنوات قبل طرحه في السوق.
وصفات موحدة للمصابين
أربعة من المرضى ممن توفوا، جراء إصابتهم بكوفيد-19، كانوا قد لجأوا إلى الطبيب العراقي المتخصص بالجراحة العامة حامد اللامي في عيادته الخاصة في منطقة الصالحية ببغداد، بعدما زعم أنه قادر على علاج الفيروس.
المرضى الأربعة منحهم اللامي وصفة موحدة، تتضمن الأدوية ذاتها، كما تبين لمعدة التحقيق التي حصلت عليها، رغم أن كلا منهم يعاني مرضا مزمنا واحدا على الأقل، لكن ذلك لم يؤخذ بعين الاعتبار، وفق روايات أسرهم لـ"العربي الجديد"، ومنهم الخمسينية عواطف جاسم المقيمة في بغداد، والتي تروي كيف تدهورت حالة زوجها الستيني رحيم عياد بعد أن ذهب إلى عيادة اللامي، والتي كانت مكتظة بالمراجعين.
عياد كانت قد ثبتت إصابته في يوليو/تموز الماضي، وعانى من سعال مستمر وضيق في التنفس على شكل نوبات، لكنه لم يتناول خلال الأسبوع الأول سوى أدويته المعتادة للسكر والضغط، وفي الأسبوع الثاني لجأ إلى اللامي الذي استقبله بوجه بشوش وطمأنه أنه سيشفى من الفيروس بالتزامه بالدواء ومراجعته بعد 4 أيام، بحسب الزوجة، موضحة أن اللامي وصف لزوجها مجموعة أدوية ومقويات من ضمنها هيدروكسي كلوروكوين والجلوتاثيون وفيتامين سي وزنك، كما قاس مستوى الأوكسجين في الدم وقال إنه مستقر، لكنه توفي بعد 3 أيام.
المخالفات التي يرتكبها اللامي، يفندها العلاق، بأن أخطرها طريقة التعامل المباشر مع المرضى، وجمعهم في مكان واحد، علما أنه يمارس عملا خارج اختصاصه كونه طبيب جراحة عامة وليس طبيب أمراض تنفسية.
وبشأن العلاج الذي يصفه، فإن المخالفة الرئيسية، هي توحيد وصفة طبية لمجموعة مرضى أصيبوا بكورونا، وهذا طبيا ممنوع، فكل إنسان لديه صفات معينة وطبيعة مرضه مختلفة، ومن الكارثي إعطاء وصفة من 10 أدوية لغالبية المرضى، الكبير والصغير ومن يعاني من أعراض متوسطة وأعراض شديدة على حد سواء، وفق توضيحه.
ومن تلك الأدوية التي يصفها اللامي هايدروكسي كلوروكين، الذي تم سحبه من البروتوكول العالمي بعد أن أعلنت منظمة الصحة العالمية في 4 يوليو/تموز 2020 أنه لا يفيد مرضى كورونا.
ورغم ذلك يستمر اللامي بوصفه للمرضى دون مراعاة الضرر الذي يمكن أن يتسبب به لهم، لافتا إلى أن تلك الأدوية متوفرة في الصيدليات العراقية وتصرف دون وصفة طبية. وتتضمن وصفة اللامي أيضا الأسبيرين والكلكسان لمنع تخثر الدم، هذهِ تحديدا تعطى فقط للحالات الشديدة من المصابين، بينما يصفها اللامي للجميع كما يوضح العلاق.
اللافت أنه بعدما ذاع صيت اللامي لفترة طويلة، أخيرا طلبت نقابة الصيادلة العراقيين من دائرة مكافحة الإجرام في بغداد التدخل لإغلاق عيادة اللامي في 11 أغسطس/آب الماضي، لكون وصفته "اجتهاد شخصي"، تتضمن الجلوتاثيون (مضاد قوي للأكسدة) والنيوروبيون (لعلاج نقص فيتامين ب). بينما يؤكد العلاق أن الأدوية المدرجة في بروتوكول وزارة الصحة العراقية هي فيتامين سي وفيتامين دي ثري، والزنك، والباراسيتامول.
مادة بيولوجية جرثومية
أعلن الطبيبان محمد الفحام أخصائي علم الفيروسات، وأحمد الخياط أخصائي العظام، في لقاء تلفزيوني بثته فضائية الاتجاه المقربة من كتائب حزب الله، في 22 يونيو/حزيران الماضي، عن اكتشافهما مادة بيولوجية جرثومية، ساهمت في شفاء 50 مريضا أصيبوا بكورونا، ووفق قول الفحام خلال المقابلة فإن الجرثومة ليست معدية وتم عزلها من ماء دجلة، وتوصل للمادة البيولوجية في مختبر خاص داخل عيادة الخياط، إذ "جرت فلترة المادة وعزل الجرثومة في حجرة معزولة، وأعدوا التركيز وخلطوها مع مادة كيميائية"، وهو ما يعتبره عضو اللجنة الاستشارية للصيدلة السريرية في وزارة الصحة العراقية حيدر فخري التكمه جي، ادعاءات لا أساس من الصحة لها، "وأصلا من غير القانوني وصف دواء غير معتمد للمريض، ولا شيء في هذهِ التجربة يضمن سلامة المريض لأن العلاج لم يخضع لدراسات سريرية".
وبينما لم ترصد نقابة الأطباء وجود مرضى خضعوا للعلاج بهذه المادة، تؤكد مصادر التحقيق أنها ليست سوى مزاعم روجوا لها عبر القنوات التلفزيونية.
نظام صحي مترهل
أثناء عمله كمسعف متطوع ضمن مجموعة الطوارئ للإغاثة الإنسانية، شهد خلدون الصعب وفاة العديد من المصابين بكورونا في منازلهم، بعد رفضهم اللجوء للمشافي الحكومية المخصصة للعزل خوفا من إهمالهم، هذه الحال، دفعت بالعراقيين إلى الاعتماد على المعلومات التي تنشر على وسائل التواصل الاجتماعي لعلاج الفيروس، ما ترتب عليه آثارا جانبية، أدت إلى تدهور حالتهم.
ويعمل الصعب وبعض المتطوعين على توفير أسطوانات الأوكسجين وأجهزة فحصه عن طريق متبرعين ويوصلونها للمصابين في منازلهم ببغداد، خاصة "أولئك الذين كانوا يرفضون اللجوء للمشافي بسبب خوفهم من سوء الرعاية الصحية هناك، بعد ارتفاع أعداد الوفيات في مشافي العزل"، كما يقول المسعف وزملائه الذين كانوا يراقبون مستوى الأوكسجين في الدم لدى هؤلاء المرضى حتى تستقر حالتهم.
انهيار المنظومة الصحية في مواجهة كورونا الذي تؤكده مصادر التحقيق عاشه، الثلاثيني محمد قاسم المقيم في حي الجهاد بالعاصمة، كما يروي لـ"العربي الجديد" تجربته، قائلا :"الخوف تملكني أثناء رقودي في مشفى اليرموك، بعد أن ثبتت إصابتي في 17 يوليو الماضي، وبعدها بخمسة أيام، ازداد شعوري بضيق تنفس شديد، بسبب انخفاض مستوى الأوكسجين في الدم، لذلك نقلني شقيقي إلى المشفى لحاجتي إلى جهاز تنفس".
يصف قاسم الوضع هناك بالمأساوي، إذ وجد سريرا بعد مرور ساعات من وصوله، إضافة إلى النقص الحاد في الأوكسجين، قائلا: "نفذت جميع أسطوانات الأوكسجين المتوفرة في المشفى في الليلة الثانية حتى صباح اليوم التالي، خلال 3 أيام توفي 7 أشخاص ممن كانوا معي في نفس الجناح، وكنت أتشارك الأوكسجين مع شخص آخر".
عقوبات لا تنفذ
في بيان صحافي أصدرته نقابة الأطباء العراقيين في 19 أغسطس 2020، أكدت أنها "مارست دورا رقابيا مع الأطباء الذين ادعوا اكتشافهم علاجا لمرضى كورونا، وحث الناس على استخدامه بدون الرجوع للضوابط العلمية والطبية في إقرار العلاجات ما يعرض حياة المصابين للخطر والضرر المتعمد".
وقررت النقابة في 19 أغسطس منع الحمداني من ممارسة المهنة لمدة سنة مع غلق عيادته، استنادا لأحكام المادة 22 من قانون نقابة الأطباء رقم 81 لعام 1984، التي توضح الأعمال الممنوعة وتشمل "مخالفة القوانين والأنظمة والتعليمات والأوامر وقواعد السلوك المهني وخاصة اجتذاب المرضى بوسائل الدعاية والترغيب أو باستخدام الوسطاء"، و"انتحال ما يوحي بأن العضو ذو اختصاص خلافا للحقيقة"، ما يعرض مرتكبيها للعقوبات التي تحكم بها لجنة الانضباط. ومن جهتها، قررت وزارة الصحة العراقية فصل اللامي من عمله في 19 سبتمبر/أيلول 2020، نتيجة انقطاعه عن عمله في مشفى الكرامة التعليمي منذ 12 يوليو المنصرم دون عذر مشروع.
لكن عضو مجلس نقابة الأطباء الدكتور سعد الخُزاعي أكد أن بعضهم استمر باستقبال المرضى في عيادته رغم القرار بإغلاقها، وتعهدهم بعدم تكرار المخالفات الواردة في التحقيق بعد انتهاء فترة المنع، وكما وثقت معدة التحقيق عبر تواصلها مع الحمداني فإنه انتقل للعمل في عيادة جديدة في أربيل بعد إغلاق عيادته في بغداد.