شهادات الوفاة السورية... ابتزاز ضحايا النظام أَحْيَاءً وأمواتاً

30 ابريل 2023
سماسرة يستغلون ذوي المعتقلين لتزويدهم بشهادات وفاة (Getty)
+ الخط -

يكشف تحقيق "العربي الجديد" كيف يستخدم النظام السوري الأوراق الرسمية أداة لمعاقبة ضحاياه المعتقلين الذين قضوا في السجون وعائلاتهم التي تضطر لدفع رشى إلى سماسرة لديهم علاقات مع موظفين حكوميين أملا في نيل شهادة وفاة.

- عجزت العشرينية السورية رزان السيد عن استخراج شهادة وفاة لوالدها المعتقل منذ إبريل/ نيسان 2013 بعد إبلاغها بوفاته من قبل أحد موظفي السجل المدني في مدينة حماة، وسط سورية، منتصف عام 2019، إذ رفض الموظف طلبها، ما اضطرها إلى اللجوء لسمسار يسكن في الحي نفسه الذي يعيش فيه عمها، من أجل استخراج الشهادة في مقابل دفع مليون ليرة سورية (الدولار يساوي 7600 ليرة سورية).

وتقول السيد لـ"العربي الجديد": "أعرف أن معظم السماسرة كاذبين، لكني لا أملك خيارا آخر، إذ لم تستطع العائلة حصر إرث الوالد بدون الشهادة، ما قد يهدد بنهب ممتلكاته".

وتتشابه معاناة السيد مع آخرين، إذ تحرم العائلات من إمكانية حصول زوجة وأطفال الموظف المتوفى في المعتقل على الراتب التقاعدي الذي يعد مصدر الدخل الوحيد المتاح، وعدم تعيين الزوجة وصية على أولادها القصر من قبل القاضي الشرعي ومن ثم استخراج جوازات سفر أو الحصول على تأشيرة، أو حتى عدم إمكانية الزواج مرة ثانية، وغيرها من التداعيات التي تنال من زوجة المعتقل المتوفى وأبنائه وأشقائه، كما يقول لـ"العربي الجديد" فضل عبد الغني، مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان (مستقلة).

ما سبق حدث مع الأربعينية السورية سحر الحلبي (اسم مستعار لعدم تعرضها للخطر) والتي لم تستطع الزواج، لعدم قدرتها على إثبات وفاة زوجها، بعدما أبلغها أحد موظفي السجل المدني في حلب بموته، وفق روايتها، قائلة لـ"العربي الجديد":" لا يمكنني انجاز أي معاملة رسمية أو الحصول على مساعدات أو القيام بأي إجراء آخر، دون الحصول على شهادة تثبت وفاة زوجي". 

وفي منتصف 2019، تلقت الحلبي اتصالاً من أحد الموظفين في السجل المدني ليخبرها بوفاة زوجها الذي اعتقلته قوات النظام في يونيو 2013، فحاولت استخراج شهادة وفاة، لكن بدون جدوى إذ رفض موظفي فرع السجل المدني بمدينة حلب منحها شهادة الوفاة، قائلة: "التقيت بعدد من السماسرة وضباط عسكريين في أماكن عامة وفي مكاتبهم أخبروني أنهم قادرون على استخراج شهادة الوفاة، لكني عرفت لاحقا أن السماسرة يستخرجون شهادة وفاة غير مقيدة في السجلات الرسمية".

ابتزاز ضحايا النظام أَحْيَاءً وأمواتاً 

تبدأ كلفة استخراج شهادة الوفاة عبر السماسرة من 100 ألف ليرة وحتى مليون ليرة، ويتوقف السعر على عوامل عدة، أهمها الحالة المادية للراغب في الحصول عليها وما إذا كان المتوفى مطلوباً لأحد الأفرع الأمنية أم لا، بالإضافة إلى طبيعة علاقات السمسار الذي يستخرجها مع العاملين في السجل المدني، وفق ما وثقه معد التحقيق عبر اتصال هاتفي مع سمسار يستخرج الوثائق الرسمية، أخبره عبر مكالمة هاتفية بأنه قادر على استخراج شهادة وفاة لاسم غير حقيقي زوده به معد التحقيق مقابل الحصول على مبلغ مليون ليرة.

ويتعرض ذوو الضحايا للابتزاز من سماسرة محسوبين على النظام كما يؤكد خمسة من ذوي الضحايا، ومنهم الثلاثيني أحمد خضر، والذي تم إبلاغه في مايو/ أيار 2018 من قبل موظف في السجل المدني بمحافظة حمص، وسط سورية، بوفاة أخيه (اعتقل في يونيو/ حزيران 2014 من منزله بمدينة الحولة في حمص بسبب نشاطه الثوري)، قائلا: "ذهبت زوجة أخي إلى السجل المدني في منتصف عام 2018 من أجل استخراج شهادة الوفاة وعقب دفع رشوة، كتب في الشهادة أنه توفى في عام 2015 بسبب نوبة قلبية". 

"الغريب في الأمر، أن رسالة بخط أخي وصلتنا مع أحد المعتقلين الذي تم الإفراج عنه في عام 2016، ما يثبت أن أخي لم يتوفى في عام 2015"، كما يقول خضر لـ"العربي الجديد"، مضيفا: "وقتها تواصلنا مع أحد السماسرة المتابعين لحالة أخي وأخبرنا بأنه تم نقله إلى سجن صيدنايا، قرب دمشق". 

بالمثل تعرضت الستينية وفاء ياسين (اسم مستعار لعدم تعريضها للخطر)، للابتزاز عند استخراج شهادة وفاة لابنها من خلال سمسار، بعد رفض السجل المدني بمدينة حلب منحها الشهادة بشكل رسمي، كما تقول لـ"العربي الجديد"، وتتابع: "بعدما عرفنا بوفاته حاولنا استصدار الشهادة لحاجتنا الماسة إليها، وعقب الدفع وضعوا سبب الوفاة في الشهادة نوبة قلبية". 

لكن مفاجأة وقعت في بداية 2019، إذ فوجئت أسرة ياسين بإطلاق سراح ابنها الذي اعتقلته قوات النظام في نهاية 2016، بتهمة العمل مع فصائل المعارضة، رغم أن السمسار الذي تابع مصيره، أخبرها في منتصف عام 2018 بأنه توفي في المعتقل ويتوجب عليها استخراج شهادة الوفاة، كما تقول، مردفة: "هذا يعني أن الشهادة التي حصلنا عليها غير موثقة لدى الجهات الرسمية".

ويلجأ أهالي المتوفين والمخفيين قسريا إلى السماسرة في البداية من أجل معرفة مصير أبنائهم، وغالبا ما يتوقعون وفاتهم بسبب طول فترة انقطاع أخبارهم، كما يقول عبد الغني، لكن غالباً ما يتعرض هؤلاء الأشخاص لعمليات نصب بسبب عجزهم عن معرفة مصير المعتقل في ظاهرة متنامية، إذ وثقت الشبكة السورية 95696 حالة لمخفيين قسريا في سجون قوات النظام السوري منذ مارس/ آذار 2011 وحتى يونيو 2022.

"سبب الوفاة نوبة قلبية"

"قُتل على يد قوات النظام السوري والمليشيات الإيرانية 87.55% من إجمالي المدنيين الذين قضوا على يد القوى المسيطرة على الأرض في سورية، والبالغ عددهم 228891 مدنيا خلال الفترة من مارس 2011 وحتى يونيو 2022"، حسب تقرير صادر عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في 19 أغسطس/ آب 2022، بعنوان "النظام السوري يتحكم بوقائع تسجيل وفاة الضحايا ممن قتلوا/ فقدوا خلال النزاع المسلح عبر أجهزته الأمنية ومؤسسات الدولة". 

95696 مخفياً قسرياً في سجون النظام السوري

لكن النظام يمتنع عن إعطاء شهادات الوفاة لذوي الضحايا إلا في حالات قليلة واستثنائية، إذ تابعت الشبكة السورية لحقوق الإنسان 1100 حالة حصلت على شهادات وفاة من الدوائر الرسمية التابعة للنظام، وفق عبد الغني، والذي قال: "لا توجد معايير لمنح شهادة الوفاة أو الامتناع، الأمر شبيه بإصدار رأس النظام مراسيم العفو. كما أن النظام لا يوفر شهادات الوفاة لمنع الباحثين من التدقيق وكشف أعداد من قتلهم".

ويستند النظام السوري إلى 3 شروط للموافقة على استخراج شهادة وفاة للمعتقلين والمعارضين الذين قضوا، الأول إعداد تقرير طبي يذكر فيه سبب غير حقيقي للوفاة، مثل أزمة قلبية للمخفيين قسريا، أو توفى بسبب مقذوفات حربية، والثاني تأكيد الوفاة من مختار الحي، إضافة إلى شهود يؤكدون ذلك وإقرار ذوي الضحايا مع تجاهلهم السبب الحقيقي للوفاة والمتسبب بها، حسب عبد الغني، مؤكدا أن وضع شرط المختار والشهود لإثبات الوفاة يهدف إلى منع إدانة النظام بأنهم توفوا في المعتقلات أو نتيجة القصف.

ويتفق بسام الأحمد، المدير التنفيذي لمنظمة "سوريون من أجل الحقيقة والعدالة" (حقوقية تُعنى برصد الانتهاكات)، مع عبد الغني في أن النظام يذكر سببا غير حقيقي في شهادات الوفاة إما عبر كتابة "نوبة قلبية" في حال كان المتوفى معتقلاً لديه، أو أنه قتل على يد أحد التنظيمات الإرهابية في حال قتل بقصف مصدره النظام أو روسيا للتخلص من المسؤولية، ولا يمنح شهادات الوفاة للمعارضين أو أقارب المعارضين ضمن إجراءات التنكيل بهم، وهو ما تؤكده إفادة موظف في السجل المدني بدمشق (طلب إخفاء هويته للموافقة على الحديث)، قائلا لـ"العربي الجديد": "المتوفون في مراكز الاحتجاز لا يتم منح ذويهم شهادات وفاة بناء على توجيهات من أجهزة الأمن والمخابرات، والآلية المتبعة هي إبلاغ الأهالي شفويا بموت أبنائهم في السجن، لكنهم لا يحصلون على جثثهم أو على بيان وفاة رسمي"، ويضيف أن طلب المدنيين الحصول على شهادة وفاة أمر مستحيل.

الصورة
ابتزاز ضحايا النظام أَحْيَاءً وأمواتاً

 

لماذا يحرم ذوو الضحايا من شهادات الوفاة؟

حاولت منظمة سوريون من أجل الحقيقة والعدالة تحديد الأسباب التي أدّت إلى عدم قدرة الأسر والعائلات على الحصول على شهادات الوفاة، فتبين أنّها مرتبطة في أحد جوانبها بصدور قرارات شفوية غير معلنة من قبل إدارات السجل المدني والأمانات التابعات لوزارة الداخلية، منعت فيه استخراج شهادة وفاة لأي شخص قُتل بما تمّ وصفه بـ"حادث غير طبيعي"، سواء من قُتل أثناء القتال إلى جانب الفصائل المسلّحة، أو بفعل وقوع المتوفى ضحية عمليات القصف والاقتتال ومخلّفات الألغام وغيرها، وفق الأحمد.

تلاعب بشهادات وفاة المعتقلين عبر ادعاء وفاتهم بنوبات قلبية

وتلقى مخاتير القرى والبلدات في الجنوب السوري تعليمات بمنع استخراج شهادات لكل من توفى خلال الفترة الممتدة من 18 مارس/ آذار 2011 وحتى أغسطس/ آب 2018، باستثناء من كانت واقعة وفاته طبيعية أو الطاعنين في السن أو من لدى ذويهم شهود على كون الوفاة طبيعية، حسبما وثقه معد التحقيق مع مختار أحد أحياء درعا (طلب عدم الكشف عن هويته لكونه مقيما في منطقة خاضعة للنظام)، والذي يقول لـ"العربي الجديد": "وصلنا إخطار من وزارة الداخلية بالامتناع عن المصادقة على شهادات الوفاة لمنع سكان الجنوب السوري، وبالأخص أهالي محافظة درعا، من استخراج الأوراق الرسمية لمعاقبتهم على وقوفهم ضد النظام، فضلا عن خوف النظام من انتفاضة جديدة في حال تم توثيق الأعداد الحقيقية للقتلى في المحافظة"، ويردف: "يوجد مخفيون قسريا بأعداد ضخمة لا يعرف أحد عنهم شيئا".

لكن مدير إحدى دوائر السجل المدني التابع لوزارة الداخلية (اشترط عدم الكشف عن هويته خشية من معاقبته)، يعترف بأنه تم إخطار مدير مكتب وزير الداخلية في اجتماع، بداية عام 2018، بأن إدارة المخابرات العامة أرسلت بناء على كتاب صادر من رئاسة الجمهورية قوائم بأسماء معتقلين قضوا، وتابع في إفادته لـ"العربي الجديد": "طلب منا إدراجهم ضمن قيود السجل المدني في محافظات دمشق وريفها، وحمص، وحلب، ودير الزور، وكتابة سبب الوفاة نوبة قلبية أو وفاة طبيعية"، ويتابع: "أبلغنا بضرورة تنفيذ القرار بالسرعة القصوى، وبالفعل بدأت القوائم تصلنا من شعبة المخابرات العامة كل قائمة على حدة وكانت بعض القوائم تضم نحو 10 أسماء والبعض الآخر يصل إلى 50 اسما".

وهو ما يؤكده موظف السجل المدني في دمشق، قائلاً: "أخبرنا مدير دائرة السجل المدني بوصول قوائم لأشخاص متوفين، وعلينا تسجيل وفاتهم وإرجاع السبب نوبة قلبية أو وفاة طبيعية، دون أي توضيح لطبيعة الأشخاص أو تزويدنا بأي تفاصيل، وأخبرنا بضرورة تنفيذ التعليمات حرفياً مع إبقاء الأمر سرياً".

الوقائع السابقة تؤكدها الشبكة السورية لحقوق الإنسان، والتي رصدت ذلك بناء على شهادات أقارب معتقلين، حسبما يقول عبد الغني، مضيفا أن إصدار النظام قوائم بأسماء معتقلين وتمكن عائلاتهم من الحصول على شهادات وفاة مذكور فيها أن سبب وفاتهم هو نوبات قلبية، يؤكد أن النظام وجه دوائر السجل المدني للقيام بذلك.

التدخل في عمل القضاء

في أغسطس 2022 أصدر النظام تعميماً برقم 22، قضى بتحديد إجراءات حول سير الدعاوى الخاصة بتثبيت الوفاة ضمن المحاكم الشرعية. وتضمن التعميم خمسة أدلة يجب التأكد من توفرها من قبل القضاة ذوي الاختصاص في الدعاوى الخاصة بتثبيت الوفاة، ومنها اشتراط طلب القضاة من فرع الأمن الجنائي المختص مخاطبة باقي الفروع الأمنية للتأكد من وجود معلومات حول الشخص المراد تثبيت وفاته أو الحصول على موافقة أمنية بذلك، واشتراط تنظيم ضبط شرطة أصولي (إبلاغ الشرطة بوفاة الشخص والحصول على الوثيقة التي تثبت قيام أقارب المتوفي بالإبلاغ) بواقعة الوفاة والتثبت من هذه الواقعة من إدارة الهجرة والجوازات، وبيان أصولي من مختار المحلة يشهد فيه على صحة الوفاة وتأكيدها، حسب عبدالغني، مشيرا إلى أن الأوامر والشروط التي فرضتها الأجهزة الأمنية، تعني أن الحصول على شهادة الوفاة سيكون بدون ذكر أن المتوفي قضى نتيجة التعذيب أو القصف، وإنما، نتيجة أسباب غير حقيقية، ويقول إن التعميم أوجب على جميع المحاكم ذات الاختصاص بقضايا تثبيت الوفاة التقيد بما ورد فيه.

ويعلق المحامي غزوان قرنفل، رئيس تجمع المحامين السوريين الأحرار (منظمة حقوقية)، قائلا لـ"العربي الجديد" إن تقييد إجراءات القضاء وإلزامه عدم الفصل بدعاوى إثبات وفاة الغائب أو المفقود لحين إبراز موافقة من الجهات الأمنية على ذلك، يعتبر تدخلا من السلطة التنفيذية في عمل القضاء، ويضيف: "يجب أن تعلن السلطات الأمنية عن مصير كل المختفين قسراً لديها، أهم في عداد الأموات أم ما زالوا معتقلين لديها؟ ويتعين عليها أن تفسر سبب اعتقالهم المديد وإبقائهم كذلك دون محاكمات. لكن هذا بالطبع لا يحصل في وجود نظام سلطوي يعتمد الإبادة والإفناء لأجل البقاء".