شركات التسليف اللبنانية... مراباة واحتيال عبر الكيانات غير القانونية
لجأت اللبنانية رلى يوسف (اسم مستعار) إلى شركة تسليف خاصة تمنح قروضاً مقابل رهن الذهب، ومنحتها 6 ليرات ذهبية تخمّن قيمتها بنحو 2300 دولار أميركي، حتى تحصل على قرض بقيمة 1500 دولار، على أن تدفع شهرياً 63 دولاراً لمدة عامين.
وبالفعل، تمكنت من الحصول على القرض عام 2018، عقب بدء الأزمة الاقتصادية في لبنان في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2019، وارتفاع سعر الصرف الرسمي للدولار، ما أدى إلى تدهور قيمة العملة الوطنية كثيراً.
حينئذ، سرت أنباء عن إقفال مؤسسة التسليف أبوابها ووضع يدها على الذهب الذي رهنه المستلفون، ما دفع رلى إلى تسديد ما بقي من القرض، في محاولة لاستعادة ذهبها، لكنّ المؤسسة رفضت إعادته، كما تقول لـ"العربي الجديد"، مضيفة: اشتريت الدولار مقابل 8000 ليرة لبنانية، علماً أن سعره عند نيل القرض كان 1500 ليرة، وبالفعل جمعت مبلغ 400 دولار بقيت من القرض، لكن الشركة رفضت إعادة الذهب، رغم أن العقد الموقع من الطرفين ينص على ردّ الرهن بعد أسبوع من تسديد كامل المبلغ، وكانت حجة المؤسسة أن هناك طلبات كثيرة بردّ الرهون.
فوضى قطاع التسليف
لم تكن شركات التسليف تخضع لمبدأ الترخيص المسبق من مصرف لبنان المركزي، وكانت الشركات تمنح المواطنين قروضاً بفوائد عالية تتجاوز الحد الأقصى المسموح به في قانون النقد والتسليف، وتطلب ضمانات تشمل مصاغاً ذهبياً وشققاً، بحسب عضو في هيئة الأسواق المالية.
ويكشف المصدر الذي طلب عدم كشف هويته للموافقة على الحديث، أن 50 شكوى قدّمت بحق شركات تسليف في الخمس سنوات الماضية، إذ عملت على استغلال حاجة المواطنين لقروض سريعة، واستولت لاحقاً على ممتلكاتهم بعد تعثرهم في السداد خلال المهلة المحددة بين الطرفين، ووصل الأمر إلى الاحتيال والمراباة وتحقيق أصحاب هذه الشركات أرباحاً طائلة.
وأحال مصرف لبنان 10 شركات تسليف على النيابة العامة التمييزية بتهمة ممارسة أعمال مصرفية من دون ترخيص في السنوات الأربع الأخيرة، وأُوقفَت عن العمل وأُوقِف أصحابها، وفق ما كشفه لـ"العربي الجديد" مصدر في جمعية المصارف في لبنان، لافتاً في حديثه إلى وجود 26 كياناً قانونياً للتسليف حائز ترخيصاً وعلماً وخبراً (بيان يجري بموجبه إعلام وزارة الداخلية بتأسيس الشركة) بحسب لوائح مصرف لبنان المنشورة على موقعه الرسمي.
ويفسر الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف سمير حمود، سبب إحالة تلك الشركات على النيابة، بأن موضوع الإقراض يسير وفق قانون النقد والتسليف رقم 13513 الصادر عام 1963، وبإشراف لجنة الرقابة على المصارف وأي مؤسسة مخالفة من شأنها أن تشكل خطراً كبيراً على المواطنين من خلال وضع يدها على أموالهم وأملاكهم.
ويلفت حمود إلى أنّ قطاع التسليف لم يكن منظماً في السابق، وكان هناك أكثر من 500 كيان للتسليف، الأمر الذي دفع مصرف لبنان إلى التدخل من خلال التعميم 12174 الصادر في 21 يناير/ كانون الثاني 2016، الذي فرض على المؤسسات أن تحصل على ترخيص من مصرف لبنان، إضافة إلى علم وخبر ليجري بعدها توقيف عدد من المؤسسات غير المرخصة.
لماذا يلجأ اللبنانيون إلى شركات التسليف؟
توقفت المصارف عن منح قروض للمواطنين بسبب الأزمة المالية الحادة، ما دفع اللبنانيين إلى اللجوء إلى شركات التسليف، وهي نوعان: قانونية وغير قانونية. وعلى حدّ قول الخبير الاقتصادي لويس حبيقة (شغل منصب عميد كلية العلوم الاقتصادية في جامعة القديس يوسف) يتوجه إليها من لا يمكنه الذهاب إلى المصرف لأسباب تتعلّق مثلاً بعدم جدارته المالية، وليس لديه راتب ثابت يحوَّل إلى البنك، أو حساب مصرفي، وكذلك قيمة القرض، علماً بأن الفوائد في مؤسسات التسليف أعلى من المصارف، كذلك إن الضمانات التي تطلبها تختلف عن البنك، منها تأمين كفيل أو رهن ذهب أو شقة أو سيارة، ويصبح من المحتمل أن يخسرها في حال تعذره عن الدفع، لافتاً إلى أنّ الضمانات يمكن أن يخسرها الزبون لمصلحة المصرف أيضاً إذا لم يسدد قرضه، ولكن الرهن يكون عادة مساوياً تقريباً للقرض الممنوح.
من هؤلاء الذين لجأوا إلى شركات التسليف، الثلاثيني اللبناني عمر فرحات (اسم مستعار لعدم رغبته في الكشف عن هويته)، الذي اقترض 3 آلاف دولار من شركة تسليف في بيروت أواخر عام 2019، من أجل شراء مقهى صغير في قريته بجبل لبنان، ومُنح القرض بعد تقديم كفيلين، ورهن سيارته التي يقدَّر سعرها بـ 5 آلاف دولار، على أن يسدد الأقساط شهرياً على مدى سنة ونصف بفائدة وصلت إلى 20%، وفق روايته لـ"العربي الجديد"، أي أن المبلغ وصل مع الفائدة إلى 3600 دولار، ليدفع قسطاً شهرياً بقيمة 200 دولار على مدى 18 شهراً.
ويقول فرحات إنّه اختار شركة تسليف رغم ارتفاع الفائدة، وخاطر بخسارة سيارته بعدما ردّ أحد المصارف اللبنانية طلبه ورفض منحه القرض عندما كانت البلاد تعيش انتفاضة 17 أكتوبر 2019، والشارع اللبناني يشهد تحركات شعبية بسبب الضرائب والغلاء والفساد وسوء الإدارة ورفض سياسات القطاع المصرفي التي ساهمت في تردي الأوضاع الاقتصادية، فكانت المصارف تضع قيوداً، كذلك فإنه لا يتقاضى راتباً شهرياً، ولا حساب مصرفياً له، بعكس المؤسسة التي كشفت فقط على المقهى وأقسامه وطلبت منه كفيلين.
ويوضح الخبير الاقتصادي والأكاديمي في الجامعة اللبنانية جاسم عجاقة، أن القانون يمنع المصرف من إعطاء قرض دون ضمانات يمكن أن تكون على قدر قيمة المبلغ أو أقل حسب سيرة الشخص، وهو ما يُعرَف بالمخاطر، وجرت العادة أن تأخذ الشقة أو السيارة مثلاً، التي يريد طالب القرض شراءها كرهن للمصرف، وفي حالة إفلاس الشخص، مثلاً، تعود إلى المصرف.
لكن ما شروط ممارسة عمليات التسليف؟ يجيب حبيقة بأنّ يكون الرأسمال الأدنى لأيٍّ من شركات التسليف ملياري ليرة لبنانية (مليون و327 ألف دولار وفق سعر الصرف الرسمي 1507 ليرات لبنانية)، يدفع ويحرر بالكامل ودفعة واحدة لدى مصرف لبنان، وعلى الشركة أن تمارس أعمالها من خلال مركزها الرئيسي دون سواه، ويحظر عليها فتح أي فرع إلا بعد الاستحصال على موافقة مصرف لبنان المسبقة وشرط توافر أموال خاصة حرة لديها توازي مليار ليرة لبنانية عن كل فرع، ويحظر عليها منح عملائها قروضاً تقلّ قيمتها عن 60% من قيمة الضمان المقدمة. فيما طلب حاكم مصرف لبنان من المصارف التقيد بالحد الأقصى للفوائد على الودائع بالعملات الأجنبية، وهي 4% لسنة وما فوق، و7.5% على الودائع بالليرة الوطنية لسنة وما فوق، وتبعاً لقانون النقد والتسليف، فإنّ الفوائد على القروض التي تمنحها شركات التسليف لا يجب أن تتجاوز هذه النسب أو تكون معقولة، علماً أنّها تتجاوزها في أحيانٍ كثيرة، وخصوصاً في الشركات غير القانونية منها، وفق مصادر التحقيق.
ويحق للبنك المركزي أن يسحب العلم والخبر من شركات التسليف عند حدوث أي خلل أو مخالفة. وللمجلس المركزي لمصرف لبنان أن يعترض على أي تفرع عن المؤسسة أو عن أسهم أو حصص، وتكون اعتراضات مصرف لبنان بهذا الشأن ملزمة لشركات التسليف والأشخاص المعنيين، وفق توضيح المحامي عيسى نحاس، المتخصص بالملفات المصرفية.
مراباة واعتداء على المقترضين
بلغ عدد حالات تبييض الأموال المشتبه بها في لبنان 597 واقعة خلال عام 2017، وتبعاً لذلك أمرت السلطات القضائية برفع السرية المصرفية عن 48 حالة، فيما بلغت 489 حالة في عام 2018، أدى التحقيق فيها إلى تجميد الحسابات ورفع السرية المصرفية عن 30 حالة أحيلت على المدعي العام التمييزي، بحسب ما جاء في تقرير هيئة التحقيق الخاصة بوحدة الإخبار المالي (هيئة مستقلة ذات طابع قضائي متخصصة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب) المنشور على موقعها الرسمي.
ويوضح نحاس أنّ طريقة عمل بعض هذه المؤسسات غير القانونية قد تُسهم في تبييض الأموال أو غسلها تحت إطار مؤسساتي، مضيفاً أن هناك أشكالاً عدة للمراباة، سواء من طريق أشخاص أو صرافين يتعاونون مع شركات التسليف غير القانونية، بهدف منح قروض للناس لقاء فوائد عالية.
ويقوم رأس مال هذه الشركات على أموال خاصة غالباً، بعكس المصارف التي ترتكز على أموال المودعين، وبالتالي إنّ رأسمال شركات التسليف كبير، نظراً لحجم الفوائد التي تحصل عليها عند منح القروض، وفق عجاقة.
ويشير المحامي رفيق غريزي (ترافع في عدة ملفات مصرفية) إلى أنّ تداعيات عدم دفع المقترض كثيرة، وأبرزها بيع الممتلكات المرهونة، وقد يصل الأمر إلى التهديد والضرب والإيذاء، حيث إن المكاتب أو الشركات غير القانونية يهدف عملها إلى إغراق المقترض بالديون لإخضاعه، وبالتالي شراء ممتلكاته، بأسعار منخفضة جداً.
وغالباً ما تتحرك وزارة الداخلية عند تقديم شكوى بالفعل أو الاعتداء، لكونها ليست مختصة بمنح رخص لشركات التسليف. لكن الخطورة الكبرى تتمثل بلجوء المؤسسات غير القانونية إلى إلزام المقترض بالتوقيع على وكالة غير قابلة للعزل تسمح للشركة بالتصرف بالرهن كضمانة للحصول على القرض الذي يبدأ من 1000 دولار أميركي إلى 20 ألف دولار وأكثر، بينما الفوائد تختلف من شركة إلى أخرى، لكن عندما تصبح الفوائد فاحشة جداً وتصل إلى 20 أو 30%، نكون أمام جرم مراباة، كما تؤكد مصادر التحقيق، ومنها المحامي غريزي.