أميركا
07 مايو 2024
+ الخط -
اظهر الملخص
- الديمقراطية الأميركية تعاني من "الشيخوخة الديمقراطية"، مع تراجع الإنصات لمطالب المواطنين واستغلال السياسيين مثل ترامب لهذا الوضع بوعود إنهاء الفساد.
- تواجه الولايات المتحدة استقطاباً داخلياً وضغوطاً خارجية، مع اتهامات للمحتجين بالحصول على دعم خارجي، ما يعكس تراجع حرية الرأي والتعبير.
- الأزمات المتتالية من الشكوك حول قيادة بايدن وتحديات ترامب، إلى الأزمة الاقتصادية، تشير إلى حاجة ملحة لإصلاح الديمقراطية الأميركية في ظل تزايد الشعبوية والاستبداد عالمياً.

من علامات الشيخوخة المبكرة فقدان السمع الجزئي، وقياساً على ذلك تشيخ الديمقراطيات عندما يتراجع إنصاتها لمواطنيها الذين قامت بهم ومن أجلهم، وهو ما  سبق أن التقطه دونالد ترامب ووعاه جيداً، واستخدمه بشعبويّته من أجل جذب الناخبين إليه في رئاسيات عام 2016، واعداً بـ "نهاية مؤسسة واشنطن السياسية الفاسدة" في حال اختياره، وقد يتكرر في الانتخابات المقبلة إذا استمرت الإدارة الحالية في حالة الإنكار التي تعيشها، ردّاً على محاولات طلاب وأساتذة الجامعات التعبير عن آرائهم حول مخاطر الدور الأميركي في حرب إسرائيل على قطاع غزة.

ويبدو أن المؤسسات الأميركية ورجالاتها قد نالتهم من الترامبية آثار لم تمحها الأيام رغم تغيّر الحزب الحاكم ورجالاته، إذ يكشف أداؤها في مواجهة المظاهرات والاعتصامات الطلابية الجارية عن تسارع أعراض "الشيخوخة الديمقراطية"، ومن ذلك أن مسؤولين ونخباً اتهموا المشاركين في حراك الجامعات التي تضم مجموعة من أفضل عقول البلاد، بأنهم حصلوا على أموال من جهات تدعم التظاهر والاحتجاج، أو أن بعض المحتجين محرومون جنسياً، ومن المتعاطفين والمؤيدين لحركة حماس والإخوان المسلمين، وفي الوقت نفسه وراءهم مجموعات يسارية! هي التي تقود المتظاهرين من أجل إحراج بايدن، وكلها اتهامات معلبة "كليشّيهات" توجهها الأنظمة "الاستبدادية" إلى معارضيها كما تقيّمها أميركا وتزدريها في كل وقت وحين.

كما تبيّن أن الدفع المتسارع مؤخراً عبر مؤسسات البلاد النيابية، باتجاه إغلاق تطبيق تواصل اجتماعي صيني لا يمكن التحكم في خوارزمياته أميركياً (تيك توك) يعود في جزء منه إلى خسارة إسرائيل معركة السردية، كما قال السيناتور الأميركي ميت رومني خلال جلسة مع الوزير بلينكن في منتدى سيدونا 2024، الذي ينظمه معهد ماكين بولاية أريزونا، وهو ما يؤكد أن الأمر لا علاقة له بأن التطبيق خطر على الأمن القومي، كما روّجت المؤسسة الرسمية، وبالتالي عليك أن تنسى حرية الرأي والتعبير التي هي جزء أساسي من الحمض النووي للديمقراطية الأميركية التي تراجعت بالمناسبة عشرة مراكز دفعة واحدة، في المؤشر الذي تصدره منظمة "مراسلون بلا حدود" لحرية العمل الإعلامي حول العالم، لتصبح في المرتبة الـ55، في تصنيف 2023، من بين 180 دولة.

ولأن خيام المعتصمين متشابهة في الشكل، ربما تكون جهات داخلية أو أجنبية هي التي تموّل هذه الاحتجاجات، كما قال مايك جونسون رئيس مجلس النواب الأميركي، أهم مؤسسة تشريعية في العالم، وثالث أهم شخصية في اميركا بعد الرئيس ونائبه، والذي دعا بكل صلف إلى طرح فكرة مصادرة تأشيرات الطلاب الأجانب المشاركين في المظاهرات الداعمة لفلسطين، وبحث إلغاء الإعفاءات الضريبية للضغط على الجامعات بشأن المظاهرات من ناحية أخرى.

ولم ينطلق جونسون من فراغ إذ وصل شعور "المؤامرة الكونية" إلى أن ردّت مديرة الاستخبارات الوطنية الأميركية، أفريل هينز، على سؤال من السيناتور ريك سكوت بشأن الاحتجاجات الطلابية بأن "ليس لدينا أي دليل على أن قطر تدعم هذه الاحتجاجات".

لكنّ مشهد الاعتداء على أساتذة وطلاب الجامعات وضربهم وسحلهم واعتقالهم (تجاوز العدد 1900 قبل ثلاثة أيام) لمنعهم من التعبير عن آرائهم يعد الأقسى والأشد تعبيراً عما آلت إليه المؤسسات الأميركية التي صارت تهدد المحكمة الجنائية الدولية، كلما اتخذت قراراً لا يروق لها، ومن ذلك رفض منح تأشيرات لموظفي المحكمة في 15 مارس/آذار 2019 بسبب تحقيق ضد مواطنين أميركيين، متهمين بارتكاب جرائم في أفغانستان، ووصل الأمر إلى أن أصدرت المحكمة يوم الجمعة الماضي، تحذيراً إلى "الأفراد الذين يهددون بالانتقام" منها أو من موظفيها، مؤكدة أن أعمالاً كهذه يمكن أن تشكل "هجوماً على إدارة العدالة"، بعد انتقادات إسرائيلية وأميركية للتحقيقات التي تجريها في مزاعم بارتكاب جرائم حرب خلال الصراع الدائر بين إسرائيل وحركة "حماس" في قطاع غزة.

ما سبق من وقائع ليس إلا غيض من فيض ويؤكد التحديات الخطرة التي تواجهها الديمقراطية الأميركية، وأولها أزمة القيادة الشائخة المتمثلة في الرئيس بايدن (81 عاماً وهناك تشكيك في قدراته العقلية بين 6 من بين كل 10 بالغين أميركيين) والرئيس ترامب  77 عاماً ويواجه تشكيكاً في أهليته القانونية والأخلاقية (ما جرى في محاولة اقتحام الكونغرس)، وأزمة الاستقطاب والانقسام المجتمعي الحاد التي يعد ترامب أحد عوامل تغذيتها وتفاقمها، وأزمة اقتصادية ومالية تأتي بعد فترة ليست بعيدة من واحدة كانت هي الأعنف في عام 2008، والأهم والأخطر أزمة نموذج صار متفرداً، ولم يعد قادراً على تقديم الجديد والتقدمي نظراً لغياب المنافسة، بعد أن انتهى محفزه وعدوه الأكبر الاتحاد السوفييتي، ومن وقتها لم يعد هناك ما يقلقه لإثبات كفاءته إذ لم يعد غيره في الساحة.

وجاءت حرب غزة بعد أوكرانيا لتحفز تفاعلات الأحداث داخل الديمقراطيات الغربية المأزومة، التي لم تعد تفرز الأفضل والأكثر دهاء والمتمالك أعصابه وواسع الحيلة، بل تفرز ترامب، وحين تتخلص منه بفضيحة مدوية سرعان ما يعود مرة ثانية بسبب أزمتها، التي أدت إلى تراجع القيم الأخلاقية التي بنيت عليها وتحولها إلى أداة للهيمنة والتوسع لم تعد مهتمة بصورتها، وإنما صارت تنزف من رصيدها الأخلاقي في ظل عدم قدرة العقلاء داخلها على منع انجرافها نحو المزيد من التشابه مع من كانت تمسك بخناقهم من أجل حقوق الإنسان، فصاروا هم من يقولون لها أين حقوق الإنسان في بلادكم؟

المشكلة أن النخب عالمياً لم تبلور بعد بديلاً او إصلاحاً حقيقياً يوقفان طوفان الانحدار، والديمقراطيون في الطرفين (غرباً وشرقاً) تتراجع أعدادهم في مقابل تزايد الشعبويين وأكثر أنواع المستبدين قسوة ودهاء لتدمير ما تبقّى من حقوق الإنسان فهل نصبح كلنا في الاستبداد شرق.