تتفاقم أزمة شح المياه في شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا إلى أراضيها، لترد كييف ببناء سد على قناة تقع شمالها، ما أدى إلى قطع 90% من الإمدادات العذبة، واستنزاف موسكو مالياً في محاولات حل مشاكل الإقليم ذاتي الحكم.
- يرصد الناشط الروسي، فاليري بودياتشي، مؤسس جبهة "سيفاستوبول - القرم - روسيا" الداعمة لانضمام شبه الجزيرة إلى موسكو، مشاكل عدم توفر المياه بالعاصمة سيمفروبول باستثناء ثلاث ساعات فقط صباحا ومثلها في المساء، على الرغم من الجهود الروسية الرامية إلى حل مشكلة المياه العذبة في القرم التي ضمتها موسكو إلى أراضيها عام 2014، بعدما كانت جزءاً من الأراضي الأوكرانية خلال الحقبة السوفييتية، وهو ما قد يؤدي إلى تصعيد عسكري روسي أوكراني ما لم يتم حل مشكلة المياه، بحسب تحذير مدير المركز الأوكراني للتحليل وإدارة السياسات، رسلان بورتنيك، والذي يرى أن "الأمر تحول إلى قضية أمن وسلام".
وتعود ازمة المياه في القرم، إلى الجفاف الذي تشهده المنطقة وتهالك شبكات نقل الإمدادات العذبة، كما يوضح وزير المنتجعات والسياحة في جمهورية القرم ذاتية الحكم كما كانت تعرف قبل الضم الروسي، ألكسندر لييف، والذي يحمل "الاحتلال الروسي" المسؤولية عما وصلت إليه الأمور بحسب خبراته إذ سبق له العمل رئيسا للجنة الثروة المائية في شبه الجزيرة التي تشكل مساحتها أقل من 0.2% من إجمالي روسيا.
تكلفة الضم
بلغت تكلفة دعم شبه جزيرة القرم 1.5 تريليون روبل روسي في السنوات الخمس الأولى للضم، وتتصدر الجمهورية البالغ عدد سكانها 1.9 مليون نسمة، الأقاليم الجنوبية في الدعم الفيدرالي، متفوقة حتى على جمهوريتي الشيشان وداغستان الواقعتين في شمال القوقاز، بحسب البيانات الحكومية الروسية.
ويتبين من نص قانون ميزانية القرم لعام 2021 والذي اطلع عليه معد التحقيق، أن الدعم الفيدرالي يبلغ 104 مليارات روبل (حوالي 1.4 مليار دولار وفقا لسعر الصرف الحالي)، مما يشكل 68 في المائة من إجمالي ميزانية الإقليم مقابل 32 في المائة فقط عوائد ضريبية.
تكلفة دعم شبه جزيرة القرم 1.5 تريليون روبل في خمس سنوات
وعلى الرغم من الدعم المالي الكبير، "تقتصر إمدادات المياه إلى منازل عاصمة القرم على الفترتين من الساعة السادسة وحتى التاسعة صباحا ونفس الساعات مساء، وهناك ساعتان إضافيتان صباحا في أيام العطلة" كما يوضح بودياتشي الوضع القائم منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قائلا في إفادته لـ"العربي الجديد": "توجد مدن أخرى في القرم تتوفر فيها المياه على مدار الساعة، وبالرغم من عمل السلطات الفيدرالية على إقامة محطة تحلية مياه في مدينة يالطا، لكن السلطات المحلية لا تفعل شيئا، منذ فرض أوكرانيا حصار الطاقة على القرم في عام 2015، وكان واضحا أن الأمر سيتكرر مع المياه يوما، ولكن السلطات المحلية عجزت عن منع حدوث ذلك، وهؤلاء موظفون أوكرانيون سابقون أي الدولة العميقة".
خسائر كبيرة وإهدار للمياه
تجاوزت خسائر قطاع التصنيع الزراعي في شبه الجزيرة بعد إغلاق أوكرانيا قناة شمال القرم المتفرعة من نهر دنيبر، 200 مليار روبل (حوالي 2.7 مليار دولار)، وفق التقديرات الأولية الصادرة في إبريل/نيسان الماضي، عن وزارة الزراعة في جمهورية القرم، والتي تقلصت الأراضي الصالحة للزراعة بها من 130 ألف هكتار في عام 2013، إلى 14 ألف هكتار في عام 2017.
"وترفض أوكرانيا مد المياه إلى منطقة خاضعة للاحتلال"، كما يقول السياسي الأوكراني لييف، مضيفا لـ"العربي الجديد": "بالدرجة الأولى، لا تزال المشكلة هي جفاف العام الماضي، وهو أمر يحدث بمعدل كل عشر سنوات. وكانت القرم تؤمّن احتياجاتها سابقا عبر مياه نهر دنيبر الذي كان يوفر إمدادات لأغلبية مدن القرم. لكن مياه دنيبر لم تعد متوفرة اليوم لأسباب أهمها، تعذر توريدها في ظروف انعدام الاتصال مع السلطة المحلية بسبب الاحتلال".
حجز مياه نهر بيلبيك لتشغيل الأسطول الروسي
وحول رؤيته لحل مشكلة نقص المياه، يضيف: "يمكن حل هذه المشكلة بواسطة جهود سلطة الاحتلال، إذ إن احتياطات المياه في القرم تبلغ نحو 300 مليون متر مكعب، بينما تتجاوز احتياجات السكان السنوية من مياه الشرب 100 مليون متر مكعب بصورة طفيفة إلا أن هذه المياه غير موزعة بشكل متساو بين مناطق القرم، فيجب نقلها، وهذه عملية تحتاج إلى موارد كبيرة سيضطر الاحتلال لتحمل تكاليفها.
ويشير لييف إلى مشكلة تهالك شبكات المياه في القرم، قائلا: "تفقد مدينة سيمفروبول اليوم نحو 60 في المائة من المياه في شبكاتها. وفي حال إجراء الصيانة لشبكات المدينة، فإن استهلاكها من المياه سيتراجع بمقدار الضعف".
ويخلص إلى أنه "في حال شعر السياح القادمون إلى شبه الجزيرة، بمن فيهم السياح من دولة الاحتلال (يقصد روسيا)، بأي نقص في المياه، فعليهم أن يدركوا أن الأمر لا علاقة له بأعمال أوكرانيا التي قطعت القناة، بل هو ناتج عن تخاذل روسيا وعجزها عن تحقيق مهمتي نقل المياه من منطقة إلى منطقة وترشيد استهلاك المياه".
محاولات لتخفيف الأزمة
اتخذت السلطات الروسية مجموعة من الخطوات لتخفيف مشكلة نقص المياه في القرم، كما يقول رئيس تحرير موقع "بوليت نافيغاتور" الإخباري الروسي المتخصص في الشؤون الأوكرانية والروسية، سيرغي ستيبانوف، مقرا في الوقت نفسه بوجود مخاطر تفاقم الأزمة أثناء الموسم السياحي، وهو وضع تروج له الدعاية الأوكرانية لإغضاب السكان المحليين، وفق اعتقاده.
ويقول ستيبانوف لـ"العربي الجديد": "حل العسكريون المشكلة في سيفاستوبول عن طريق بناء منشآت تقنومائية لحجز مياه نهر بيلبيك الواقع في القرم والتي كانت تصب في البحر. وحتى الآن يحل هذا المشكلة الرئيسية لتشغيل قاعدة أسطول البحر الأسود إذ يتم حجز مياه النهر لتشغيل الأسطول الروسي وتزويد العسكريين بالمياه العذبة، ولم تحدث في المدينة حالات انقطاع المياه على عكس باقي مناطق القرم. إلا أن سيفاستوبول تأتي اليوم بين المدن الروسية الرائدة من جهة وتيرة زيادة السكان، ولذلك قد تتجدد المشكلة قريبا مرة أخرى".
وتظهر بيانات هيئة الإحصاء الروسية "روس ستات" أن سيفاستوبول تصدرت أقاليم روسيا من جهة الزيادة السكانية التي بلغت نسبتها 16.8 في المائة خلال السنوات الثلاث الأخيرة، ليبلغ عدد سكان المدينة 510 آلاف نسمة بحلول بداية العام الجاري. وحول خيارات حل مشكلة المياه في باقي مناطق القرم، يضيف: "يجري النظر في إمكانية حفر الآبار والبحث عن احتياطات المياه العذبة تحت قاع بحر آزوف وبناء محطة التحلية".
ومع ذلك، لا يعفي ستيبانوف السلطات المحلية من المسؤولية عما وصلت إليه مشكلة نقص المياه، قائلا: "لم يتم إخضاع شبكات المياه للصيانة اللازمة، ولذلك يتم إهدار نحو 30 في المائة من المياه في الأنابيب المتهالكة التي لم يتم استبدالها منذ حقبة الاتحاد السوفييتي. بالإضافة إلى ذلك، يسفر ذوبان الثلوج بجبال جنوب القرم عن صب مياه العديد من الأنهار الصغيرة في البحر، بينما كان يمكن استخدامها لإمدادات المياه". يتابع: "على ضوء التوقعات بقدوم عدد قياسي من السياح إلى القرم في ظروف إغلاق الحدود الخارجية بسبب جائحة كورونا، تتزايد مخاطر نقص المياه. وبالمناسبة، تروج الدعاية الأوكرانية لهذه المسألة بقوة لزرع الغضب بين سكان شبه الجزيرة. لكن حسب علمي، هناك بعض الفنادق الكبرى أنشأت محطات تحلية صغيرة تابعة لها منذ أولى الاضطرابات في إمدادات المياه في الصيف الماضي".
بيع المياه
يرى الخبير بورتنيك المتواجد في كييف، أن أوكرانيا يتعين عليها تزويد القرم بالمياه لتعزيز وجودها في شبه الجزيرة، محذرا من خطر التصعيد العسكري بين روسيا وأوكرانيا بسبب أزمة المياه.
ويقول بورتنيك في حديث لـ"العربي الجديد": "نسبة ملء بعض خزانات في القرم تراجعت إلى 7 في المائة فقط، ما يعني أنها أصبحت فارغة بنسبة 93 في المائة، وفي العديد من المدن، تقتصر إمدادات المياه على ساعات معينة، والزراعة في بعض المناطق باتت شبه ميتة وحتى الموسم السياحي بات مهددا، ومن الواضح أن هذا الوضع يزيد من حدة النزاع بين روسيا وأوكرانيا وقد يؤدي إلى تصاعد عسكري في نهاية المطاف. ولذلك أصبح حل مشكلة مياه القرم هو مسألة أمن وسلام جنوب أوكرانيا أكثر منها سياسة".
ومع ذلك، يقر الخبير الأوكراني بعدم فاعلية سياسات كييف تجاه القرم، مضيفا: "أعتقد أن سياسات أوكرانيا تجاه مياه القرم، وقبلها الكهرباء، ليست فعالة. أدى منع تدفق المياه إلى القرم إلى تدهور موقف سكان شبه الجزيرة باتجاه أوكرانيا ويقلل من وجود كييف في الجمهورية، وهذه مشكلة كبيرة ناتجة عن السياسة غير العقلانية".
وحول رؤيته للسياسة الأوكرانية الصائبة تجاه القرم، يتابع: "يجب بيع المياه للقرم حتى تحقق أوكرانيا أرباحا فتخصصها لدعم شعب تتار القرم والقوات المسلحة الأوكرانية وتحفيز الوجود الاقتصادي الأوكراني في القرم التي لن تستعيد كييف نفوذها فيها إلا عن طريقه، ومن دونه، فإن عودة القرم إلى أوكرانيا أمر غير واقعي".
ويعتبر أنه يتعين على كييف "استبدال سياسة الشعبوية بالعقلانية، لأن بيع المياه للقرم لا يعني اعترافا بأنها روسية، بل تقديم أوكرانيا على أنها حامي السكان وتحل مشكلاتهم".
ويخلص إلى أن مثل هذه السياسة كانت ستتيح لأوكرانيا "فرض شروط على روسيا من جهة السماح بعمل وسائل الإعلام الأوكرانية والمفوض الأوكراني لحقوق الإنسان وإيفاد بعثات المراقبة وتعزيز مكانة أوكرانيا في القرم لخلق ظروف تسهل عودتها في المستقبل إلى الوطن الأم.