على الرغم من قوائم السلع الممنوع تصديرها إلى روسيا بسبب العقوبات الغربية جراء حربها على أوكرانيا، فإنّ موسكو نجحت في التحايل على الإجراءات عبر الاستيراد الموازي والتخلي عن قوانين حماية حقوق الملكية الفكرية.
- تتوفر مختلف السلع التي تنتجها شركات غربية انسحبت رسميا من السوق الروسية، بسبب الحرب في أوكرانيا داخل متجر لبيع السلع بالتجزئة على أطراف موسكو، بما في ذلك العلامات التجارية الأميركية مثل كوكا كولا وحتى السلع التكنولوجية الأصلية مثل منتجات شركة آبل، بينما تزخر مواقع إعلانات بيع السيارات الجديدة بالطُرُز الغربية مثل مرسيدس وبي إم دبليو الألمانيتين وغيرهما.
وتبدو كتابات باللغة الكازاخية على زجاجة الكوكاكولا التي يؤكد البائع أنها وكافة السلع والعلامات التجارية الغربية الممنوعة تصل إلى متجره بسهولة من خلال الجمهوريات السوفييتية السابقة مثل أرمينيا وكازاخستان وقرغيزستان، وهي أعضاء في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي مع روسيا وبيلاروسيا، وبالتالي تدخل كافة المنتجات إليها ومن ثم تصل إلى الأراضي الروسية من دون أي تعرفة جمركية.
وانسحبت ألف شركة أجنبية من السوق الروسية منذ بدء الحرب في أوكرانيا وحتى منتصف سبتمبر/أيلول الماضي، ومن أشهرها شركات آبل ومايكروسوفت وبوينغ الأميركية، وبي إم دبليو ومرسيدس الألمانيتين، وسامسونغ الكورية الجنوبية، وحتى هواوي الصينية التي توقفت عن قبول طلبيات جديدة، وفق ما يكشفه مسح تجريه وتحدثه مدرسة الإدارة التابعة لجامعة ييل الأميركية وأكده عاملون في المتاجر لـ"العربي الجديد" أثناء جولة ميدانية.
واردات بمليارات الدولارات
في 19 إبريل/نيسان الماضي، أصدرت وزارة التجارة والصناعة الروسية القرار رقم 1532 لتحديد فئات السلع والعلامات التجارية المسموح بتفعيل طرق وعمليات الاستيراد الموازي لها، ومن بينها العطور ومستحضرات التجميل، والملابس، والزجاج، ووسائل النقل، والمعدات الإلكترونية، وغيرها.
ويعرف الاستيراد الموازي بأنّه جلب سلعة غير مقرصنة مصنعة في الخارج إلى بلد ما، لكن من دون إذن من صاحب الملكية الفكرية (أي صاحب براءة الاختراع أو العلامة التجارية)، بحسب تعريف لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا)، ويوضح كبير المحللين في مجموعة تيلي تريد الدولية للتداول، مارك غويخمان، أنّ الاستيراد الموازي ظل محظوراً في روسيا منذ عام 2002، لكنه صار ضرورة كما يقول لـ"العربي الجديد": "الاستيراد عبر الوكلاء يحفظ حقوق المستهلك ويمنع دخول السلع المزيفة التي تحاكي المنتجات الأصلية. كان المصنعون يبيعون منتجاتهم عبر الموزعين المعتمدين فقط. لكن اليوم، لم يعد المستوردون يحتاجون إلى موافقة المصنع أو مالك العلامة التجارية لإدخال أجهزة آيفون أو سيارات تويوتا إلى روسيا".
قرار وزاري يحدد فئات السلع المسموح بتفعيل عمليات الاستيراد الموازي لها
وتنص المادة 385 من القانون الجمركي للاتحاد الاقتصادي الأوراسي على إدراج وحدات الملكية الفكرية على القائمة الجمركية الموحدة لحمايتها في جميع الدول الأعضاء، وبحسب تقديرات وزارة التجارة، فإن قيمة الواردات الموازية إلى روسيا تتراوح بين مليارين ومليارين ونصف المليار دولار شهريا، ليبلغ مجموعها نحو 6.5 مليارات دولار منذ السماح بها وحتى منتصف أغسطس/آب الماضي، والرقم قابل للارتفاع إلى 20 مليارا بحلول نهاية العام، وفق توقعات أدلى بها وزير الصناعة والتجارة الروسي، دينيس مانتوروف، في سبتمبر الماضي، بينما تشير بيانات هيئة الجمارك الفيدرالية الروسية، إلى أن القيمة الإجمالية للاستيراد الموازي بلغت 12.6 مليار دولار بحلول النصف الثاني من أكتوبر/تشرين الأول.
ومع ذلك، ثمة متاجر قررت العزوف عن اللجوء إلى الاستيراد الموازي نظرا للصعوبات اللوجستية المتعلقة به وارتفاع الأسعار للمستهلك النهائي بشكل مبالغ فيه، إذ أكدت بائعتان بشبكتي متاجر ليتوال وريف غوش الروسيتين للعطور ومستحضرات التجميل، أنّ العلامات التجارية العالمية المنسحبة من السوق الروسية مثل ديور وشانيل لن تعود معروضة بفروع المتجر بعد نفاد الاحتياطات السابقة. وتقول إحدى البائعتين، مشيرة بإصبعها إلى منتجات شانيل بالمتجر: "هذه هي الزجاجات المتبقية، ولا يوجد سواها في المخزن، وإذا اشتريتموها كلها، فلن تعود هذه العلامة معروضة بفرعنا".
مكاسب للتجار بلا حقوق للمستهلك
يعتبر الخبير الاقتصادي والصناعي الروسي المستقل، ليونيد خازانوف والذي عمل محللا في عدة مؤسسات صناعية، أن السماح بالاستيراد الموازي يصب في مصلحة شبكات التجزئة، لكنه لا يضمن حقوق المستهلك النهائي الذي قد يحصل في نهاية الأمر على سلع سيئة الجودة.
ويقول خازانوف الذي يحمل درجة الدكتوراه في الاقتصاد، في إفادته لـ"العربي الجديد": "من يستفيد هم تجار المعدات المنزلية والأجهزة الذكية والملابس والأحذية ومعارض بيع السيارات وورش صيانتها، ولا يصب الاستيراد الموازي في مصلحة المصنعين الغربيين الذين غادروا سوق بلادنا بشكل مباشر، إذ حرموا من أرباح يذهب هامش منها للمستوردين، لكنّ الصناعة الروسية تضررت أيضاً، بعدما تبين أنّ استيراد بعض المنتجات كان أسهل من إنتاجها محلياً داخل روسيا، ومن بينها مكونات السيارات والمعدات. وحتى إذا تسنى إنتاجها محلياً، فسيكون من الصعب أن تتنافس مع مثيلاتها الأجنبية من جهة الأسعار بسبب مفعول اقتصاديات التوسع الحجمي الذي يتيح خفض تكلفة المنتج كلما ازدادت الكميات، والمستهلك النهائي خاسر أيضا، لأنّه قد يحصل على سلع مزيفة بسبب تبعات الاستيراد الموازي الذي قد يتخلله الغش عن طريق بيع منتجات مقلدة".
الاستيراد الموازي لا يضمن حقوق المستهلك النهائي
ويؤيد رئيس منظمة بلوك بوست الإقليمية المعنية بحماية حقوق المستهلك، فيتالي كراسنوشابكا، هذا الرأي، لافتاً إلى أنّ الاستيراد الموازي لا يتيح للمستهلك النهائي الطعن في جودة المنتج إلّا أمام الموزع لا المستورد أو المصنع.
ويقول كراسنوشابكا لـ"العربي الجديد": "بسبب تهريب السلع، لن يعود متاحاً الاعتراض سوى أمام البائع وتنتفي مسؤولية المستورد أو المصنّع، وهنا يمكن للبائع تغيير موطنه القانوني أو تصفية شركته بسهولة. هناك فارق بين معرض بيع السيارات الذي يستطيع تغيير شخصيته الاعتبارية كل ستة أشهر، والوكيل المعتمد".
ويتساءل: "من سيفي بمطالب القانون الخاصة بمطابقة المنتج للوائح ومتطلبات الجودة الروسية؟ من سيتحمل الالتزامات بالمسؤولية بموجب الضمان؟".
تغيرات في سوق السيارات
يوضح المدير التنفيذي لوكالة "أفتوستات" المعنية بتحليل سوق السيارات، سيرغي أودالوف، أن انسحاب الشركات الغربية المصنعة للسيارات من روسيا عزز من مكانة السيارات الصينية بالسوق الروسية، مشيراً في الوقت نفسه إلى ارتفاع مستمر في وتيرة استيراد السيارات بواسطة أفراد من الدول الأوروبية.
ويقول أودالوف في إفادة لـ"العربي الجديد": "في عام 2022، شهد شهر فبراير/شباط ذروة استيراد السيارات بواقع أكثر من 32 ألف سيارة، 65 في المائة منها سيارات جديدة. لكن في يوليو/تموز الماضي، جرى استيراد 25 ألف سيارة، 32 في المائة منها فقط جديدة. وهناك ارتفاع مستمر لاستيراد السيارات بواسطة الأفراد من 2 في المائة في فبراير/شباط إلى 20 في المائة في يوليو".
ويلفت إلى أنّ تغير الوضع الجيوسياسي أسفر عن قفزة في السيارات المستوردة من الصين، مضيفاً: "في الربع الأول من العام، بلغت حصص السيارات الخفيفة الجديدة المستوردة من الصين وبلجيكا وألمانيا 28.3 و25.2 و17.4 في المائة على التوالي. لكن الوضع تغير في النصف الثاني من العام، إذ قفزت حصة الصين إلى 80.6 في المائة، وتليها كوريا الجنوبية واليابان بحصتي 7 و2.6 في المائة على التوالي".
وتتراجع حصة السيارات الأوروبية الجديدة في روسيا بشكل كبير، إذ أظهر بحث أجراه معد التحقيق عبر موقع أفيتو.رو، للإعلانات في بداية سبتمبر الماضي، أنّ 400 سيارة جديدة من طراز مرسيدس بنز معروضة للبيع في موسكو وحدها، و100 سيارة من طراز بي إم دبليو، ونحو 600 سيارة من طراز رينو الفرنسية. لكنّ البحث عبر الموقع ذاته في نهاية أكتوبر، كشف عن تراجع عدد السيارات الجديدة من الطرز المذكورة إلى نحو 260 و70 و390 على التوالي. وبحسب تقديرات "أفتوستات" الصادرة في يوليو/تموز الماضي، فإن مخزون السيارات الأجنبية في روسيا كاف لتلبية طلب المشترين لمدة تتراوح بين ثلاثة وستة أشهر.
ويرى مارك غويخمان أن السماح بالاستيراد الموازي في الظروف الراهنة أمر إيجابي، مضيفا: "الاستيراد الموازي اليوم هو ضرورة تعود إلى أن انسحاب العديد من الشركات من السوق الروسية ترك فراغات في العديد من قطاعات الإنتاج والاستهلاك، لا يمكن ملؤها بالمنتجات المحلية على وجه السرعة على الأقل. لذلك كانت هناك ضرورة للسماح بالاستيراد الموازي والآليات البديلة غير الرسمية للإمدادات".
ويلفت إلى مجموعة من السلبيات المتعلقة بالاستيراد الموازي قائلا: "تتعلق المخاطر بانعدام الخدمة المعتادة ما بعد البيع من جهة الضمان والصيانة والاستبدال، وارتفاع الأسعار مقارنة مع الاستيراد المباشر بسبب الوسطاء الإضافيين وإطالة طريق الشحن وقلة المعروض في السوق".
ويرجح غويخمان أن العديد من الشركات المنسحبة من السوق الروسية لا تعارض الاستيراد الموازي، كونه يتيح لها حفظ ماء الوجه من وجهة النظر السياسية، مع استمرار مبيعاتها في السوق الروسية من دون تحمل المسؤولية والنفقات المتعلقة بالضمان والصيانة.
قوائم انتقائية للسلع
أعلن وزير الصناعة والتجارة الروسي، دينيس مانتوروف، على هامش المنتدى الاقتصادي الشرقي في مدينة فلاديفوستوك الواقعة في أقصى شرق روسيا في سبتمبر الماضي، عن تمديد آلية الاستيراد الموازي حتى عام 2023، دون التطرق إلى إمكانية تقنينه.
ورغم إقراره بصحة قرار السماح بالاستيراد الموازي في ظروف العقوبات الغربية، إلا أن الخبير الاقتصادي الروسي المستقل، ألكسندر زوتين، يعتبر أن تطبيقه جاء في شكل أنصاف حلول عن طريق وضع وزارة الصناعة والتجارة الروسية قائمة من العلامات التجارية التي ينطبق عليها القرار، معربا عن اشتباهه في أن مجموعات لوبي غربية قد تكون لعبت دورا في ذلك، ومستغربا لماذا شملت القائمة سلعا من علامات تجارية على حساب أخرى.
ويقول زوتين الذي عمل سابقاً نائباً لرئيس قسم التحليل في وزارة التنمية الاقتصادية الروسية، في حديث لـ"العربي الجديد": "يجب أن تكون الأولوية هي التنمية التكنولوجية لبلادنا، وليس رخاء أصحاب حقوق العلامات الأجانب، حان الوقت للانتقال من أنصاف الإجراءات والقوائم التعسفية لوزارة التجارة والصناعة التي تثير شبهات وجود لوبيهات للمصنعين الغربيين، إلى تقنين الاستيراد ودعم المنتج المحلي". ويضيف: "يجب تصفية القائمة الجمركية لوحدات الملكية الفكرية، ومنع هيئة الجمارك الفيدرالية من التدخل في العلاقة بين أصحاب حقوق العلامة والمستوردين، وإذا كان أصحاب الحقوق لديهم أي اعتراضات، فيمكنهم اللجوء إلى القضاء، على هيئة الجمارك أن تعمل لصالح الفاعلين الاقتصاديين الوطنيين وليس أصحاب الحقوق الأجانب، وحتى ينبغي تقليص صلاحيات الهيئة وعدد أفرادها".