انهيار الجيش الأفغاني... فساد القياديين وتلاعب الرئاسة سهّلا مهمة طالبان

20 سبتمبر 2021
الفساد في التعيينات أسهم في انهيار قيادة الجيش الأفغاني (Getty)
+ الخط -

لم يتوقع أكثر المتشائمين من الأوضاع في أفغانستان، سرعة انهيار الجيش الحديث والذي بلغت تكلفته 84 مليار دولار، على يد مليشيات أقل عدداً وتسليحاً، لكن فساد القياديين وتلاعب الرئاسة سهّلا مهمة طالبان كما يوثق التحقيق.

- استسلم الضابط في الجيش الأفغاني محمد أصغر ومن تبقى من سريته المسؤولة عن تأمين سد كجكي في إقليم هلمند جنوب أفغانستان، بعدما عملوا في منطقة تبلغ مساحتها ستة كيلومترات مربعة كانت تحت سيطرة الحكومة، بينما سيطرت حركة طالبان على عشرات الكيلومترات من الأراضي المحيطة بها.

وعانى أصغر برفقة 110 من جنوده المتبقين، من تجاهل قيادة الجيش في كابول طلباتهم المتكررة من أجل مدهم بالذخيرة والطعام، حتى أنهم تناولوا الخبز الجاف والمياه غير النظيفة لمدة أربعة أيام في يوليو/تموز الماضي، قائلا: "قيادة الجيش تتحمل المسؤولية، قتل خمسون من جنودي في المعارك الأخيرة مع طالبان، كنا نقاتل بضراوة وشجاعة لكن المشكلة الأساسية في فساد القيادة"، مضيفا أن "طالبان" أفرجوا عني، حتى أنهم منحوني أجرة السيارة التي أقلتني إلى أهلي في مديرية شبرهار بإقليم ننجرهار شرقي أفغانستان.

وفرّ للأسباب ذاتها عشرة آلاف جندي أفغاني خلال يوليو وأغسطس/آب الماضي، إضافة إلى استسلام عدد أكبر من الجنود، وفق تأكيد محمد نديم الموظف في إدارة التجنيد بمديرية التجنيد والتعبئة في الجيش الأفغاني، كما هرب آخرون قبل سيطرة طالبان على كابول، رغم دورهم الحيوي في مواجهة الحركة ومن بينهم 600 من طاقم القوات الجوية الأفغانية والذين غادروا إلى أوزبكستان عبر 56 طائرة ومروحية، حسب ما يقول أحمد زبير عصمت الخبير الأمني والأستاذ في أكاديمية مارشال فهيم العسكرية في كابول، ويتابع: "ننتظر إعلان طالبان عن تشكيل الجيش كي نعود إلى العمل وليس لنا طريق غير ذلك".

إمكانيات هائلة وفساد مستشر

في يوليو الماضي وبينما تحتدم المعارك، جرى نقل 40 صندوق ذخيرة إلى الجيش الأفغاني في مدينة هرات غربي أفغانستان، لم يصل منها سوى ثمانية صناديق فقط، والبقية بيعت في الطريق، وفق تأكيد عبد الصبور ولي محمد، مدير التنسيق السابق في إدارة قيادة الجيش برئاسة الجمهورية، مشيرا إلى أن القضية وصلت إلى رئاسة الجمهورية والرئيس كان بصدد إحالتها إلى مكتب المدعي العام للبت فيها، لكن المحلل الأمني والموظف في وزارة الدفاع الأفغانية، محمد إسماعيل وزيري، يؤكد أن ما سبق لا يعد إلا رأس جبل الجليد لفساد مستشر منذ أعوام يقوم على الاتجار بسلاح الجيش والمعدات وحتى المواد الغذائية.

ومنذ تأسيس الجيش الأفغاني في مايو/أيار 2002، على يد القوات الأميركية بلغ قوامه إضافة إلى القوات الأمنية حوالي 350 ألف عنصر، في مقابل 73 ألف مقاتل يتبعون طالبان، وفق تأكيد السكرتير الصحافي للبنتاغون، جون كيربي في تصريحات صحافية نشرها الموقع الرسمي لوزارة الدفاع الأميركية.

مقتل 59 ألف مقاتل من قوات الجيش الأفغاني خلال عشرين عاماً

وضم الجيش الأفغاني 195 ألف جندي وضابط موزعين على سبعة فيالق وأربع فرق (قسم العمليات الخاصة وفرقة المشاة 111 وفرقة بامير 20 وفرقة من الشرطة العسكرية) وكتيبتين ولواء دعم، بحسب ما رصده معد التحقيق عبر الموقع الرسمي لوزارة الدفاع الأفغانية، بينما قتل 59 ألف عنصر من بينهم منذ تأسيسه وحتى عام 2019، وفق معلومات وزارة الدفاع التي استند إليها تقرير "متغيرات تتبع إعادة الإعمار والأمن في أفغانستان بعد 11 سبتمبر" الصادر عن معهد بروكنجز في أغسطس 2020، ويوضح التقرير أن حجم قوات الأمن والجيش الأفغاني المناوب بلغ 272 ألفا و500 فرد، بينهم 112 ألفا و400 فرد يتبعون لوزارة الداخلية، والبقية يخدمون في وزارة الدفاع.

وأنفقت الولايات المتحدة 84 مليار دولار منذ عام 2002 للمساعدة في خلق أمن طويل الأمد في أفغانستان، بما في ذلك توفير وصيانة المعدات لقوات الدفاع والأمن الأفغانية، وفق تقرير "الأمن الأفغاني" الصادر عن مكتب مساءلة الحكومة الأميركية (وكالة حكومية توفر تدقيقًا، وتقييمًا، وخدمات تحقيق للكونغرس) في أكتوبر/تشرين الأول 2018، موضحا أن الولايات المتحدة مولت ستة أنواع من المعدات الرئيسية، عبارة عن 600 ألف قطعة سلاح من البنادق الرشاشة وقاذفات القنابل اليدوية والمسدسات، و163 ألف جهاز لاسلكي تكتيكي مثل أجهزة الراديو المحمولة و76 ألف عربة همفي وشاحنات ومركبات إنقاذ ومركبات محمية من الكمائن المقاومة للألغام، و30 ألف جهاز لكشف المتفجرات والتخلص منها، و208 مروحيات وطائرة هجومية خفيفة، وتجهيز 16 ألف عنصر بمعدات للاستخبارات والمراقبة مثل طائرات من دون طيار وأجهزة الرؤية الليلية.

الطريق إلى انهيار الجيش

يتكون الجيش الأفغاني من إثنيات مختلفة، على رأسها البشتون (تشكل الحاضنة الأساسية لحركة طالبان) والتي تشكل 70% من قوام الجيش، بالإضافة إلى 30% من بقية المكونات الأفغانية، بحسب تأكيد الضابط ذبيح الله غورزنك، قائد لواء بالجيش في ولاية قندهار، وهجرت الله مخلص، الضابط العامل في إدارة التدريب بوزارة الدفاع. ويقول غورزنك لـ"العربي الجديد" إن الإثنيات الأخرى انضمت إلى جبهة المقاومة في ولاية بنجشير الواقعة شمال کابول.

لكن لماذا انهار الجيش الأفغاني المزود بمعدات عسكرية أميركية متطورة؟ يجيب محمد صميم، الموظف السابق في القصر الرئاسي، قائلا: "الرئيس أشرف غني كان يقوم بتغيير مسؤولين في جميع أجهزة الجيش والأمن بناء على استشارات مقربين له، كما حدث في تعيين ثلاثة رؤساء أركان للجيش خلال أشهر قليلة، ومنهم الجنرال ياسين ضياء، والجنرال ولي محمد أحمد زاي والجنرال هيبت الله علي زاي، مؤكدا لـ"العربي الجديد" أن ضياء الذي عزله الرئيس غني من دون مبرر، من "المجاهدين" السابقين، ولم تتمكن طالبان أثناء قيادته الجيش من السيطرة على مناطق كبيرة، لأنه كان يعرف جيدا كيف يواجه طالبان، وكان يعمل على جمع القوات وترتيب مواقعها وتوفير احتياجاتها، من خلال زياراته اليومية للأقاليم.

أنفقت الولايات المتحدة 84 مليار دولار لتوفير الأمن في أفغانستان

وجرى تعيين أشخاصا غير مؤهلين في مناصب رفيعة ذات علاقة بالعمل العسكري والقوات المسلحة على أسس سياسية ومصالح شخصية، مثل تعيين الدكتور حمد الله محب (متخصص في هندسة الحاسوب) مستشارا للأمن القومي الأفغاني، حسب ما يقول وزيري لـ"العربي الجديد". وتولى الدكتور محب (كانت وزارتا الدفاع والداخلية والاستخبارات تحت إمرته) إدارة شؤون الحرب مع طالبان، رغم أنه لا يمتلك أي تجربة حربية، حسب ما يقول رئيس إدارة وضع البرامج والخطط في الاستخبارات الأفغانية، مجيب خان (اسم مستعار لدواع أمنية)، مؤكدا لـ"العربي الجديد" أن الرئيس غني كان يتشاور مع فريق غير مؤهل لإدارة الحرب، مثل الدكتور محب ورئيس مكتبه الدكتور فضل محمود فضلي، ورئيس إدارة شؤون الأقاليم، شميم كتوازي.

كما جرت التعيينات العسكرية على رأس الفيالق بناء على رغبة أمراء الحرب ومنهم الجنرال عبد الرشيد دوستم الذي شغل منصب نائب رئيس الجمهورية (خلال الفترة منذ عام 2014 وحتى 2020)، وعطاء نور، الحاكم السابق لولاية بلخ شمال غربي أفغانستان، وأمين عام الجمعية الإسلامية (حزب سياسي)، واللذان تدخلا بشكل كبير في التعيينات، مثل تعيين محمد حبيب ساري (من عناصر نور) مديرا لمكتب رئيس أركان الجيش، ومحمد حسيب (مقرب من عبدالله عبدالله رئيس المجلس الأعلى الوطني للمصالحة في حكومة غني)، قائد لواء في إقليم بادغيس شمال غربي أفغانستان، وفق وزيري، مؤكدا أن المناصب السيادية في وزارة الدفاع كانت تباع مقابل المال.

لكن نبى الله أحمد (اسم مستعار لكونه يعيش في كابول)، عضو فريق مراقبة الجيش والذي كان يرفع التقارير إلى وزير الدفاع ورئاسة الجمهورية يوميا، يحمّل أميركا مسؤولية انهيار الجيش، قائلا لـ"العربي الجديد": "تعمدت القوات الأميركية ترك مناطق كاملة لطالبان، فضلا عن عدم وفاء أميركا بوعدها بتوفير الدعم الجوي للقوات الأفغانية". يوافقه، محمد عفيف (اسم مستعار لكونه يعيش في كابول)، المسؤول السابق في حراسة رئيس الجمهورية، قائلا: "أميركا وعدت بتوفير الغطاء الجوي لقوات الجيش ولم تفعل ذلك في محاولة منها لإقناع غني بترك منصبه لحكومة انتقالية، ما دامت طالبان مصرة على عدم التصالح معه إذا بقي في الحكم".

في المقابل يرد السكرتير الصحافي للبنتاغون، مؤكدا أن توفير الغطاء الجوي مسؤولية أفغانية بالأساس، مشيرا إلى أن الولايات المتحدة قدمت الدعم رغم ذلك لبعض الضربات الجوية والخدمات اللوجستية، وتابع في تصريحات صحافية نشرها موقع وزارة الدفاع: "لديهم 130 طائرة جوية غربية عاملة ومجهزة بشكل تام"، مضيفا: "يعود الأمر حقًا إلى قيادتهم. لديهم ميزة من حيث العدد والقوات الجوية والأسلحة الحديثة. الأمر يتعلق حقًا بوجود الإرادة لدى القيادة من أجل استخدام هذه المزايا لمصلحتهم الخاصة، وفي الواقع، كانوا يقومون بضربات جوية أكثر من القوات الأميركية، وكنا أعطيناهم للتو ثلاث طائرات بلاك هوك جديدة بعد ما يقرب من الدعم المستمر على مدار 20 عامًا".

لكن الأستاذ بأكاديمية مارشال فهيم العسكرية، يعارض ما سبق قائلا لـ"العربي الجديد": "الطائرات التي كانت بحوزة الجيش الأفغاني لم تكن متطورة ولم يكن بإمكانها استهداف العدو بدقة، كما أنها لا تستطيع مساعدة القوات على الأرض ليلا، لأنها تفتقد لتكنولوجيا القصف الليلي الدقيق، كما أن الدعم المالي لسلاح الجو الأفغاني كان بيد القوات الأميركية ويجب التنسيق معها في أي عملية".

كيف مهدت طالبان للسيطرة على أفغانستان؟

اعتمدت الحكومة على مليشيات قبلية في حربها ضد حركة طالبان، لكنها توقفت منذ العام 2020 عن دفع رواتبها ودعمها بالمعدات العسكرية، الأمر الذي استغلته طالبان بقوة، تحديدا في جنوب وشرق أفغانستان، إذ عملت على دفع رواتب للزعامات القبلية هناك، بهدف كسب ودها ومنع أبنائها من الانضمام للجيش الأفغاني، وفق تأكيد محمد درويش، الضابط في فيلق سيلاب بإقليم ننجرهار لـ"العربي الجديد". ويقول أجمل خان الزعيم القبلي في ولاية ننجرهار، إن حركة طالبان كانت تدفع شهريا خمسة آلاف أفغانية (وفق سعر الصرف الحالي تساوي 60 دولارا أميركيا) للوجاهات الاجتماعية وزعماء القبائل، ويضيف لـ"العربي الجديد": "كان هذا محفزا قويا لتعمل الزعامات القبلية مع طالبان بعد إهمال الحكومة الأفغانية لدورها كليا".

وفي إبريل/نيسان الماضي، أعلنت حركة طالبان عن انشقاق 1127 من موظفي النظام الأفغاني، وانضموا لحركة طالبان، من بينهم عسكريون ورجال شرطة سلّموا أسلحة ومركبات مختلفة لقواتها، وفق تقرير صادر عن لجنة الدعوة والإرشاد التابعة لطالبان في إبريل الماضي، والذي نشر هوية مجندي الحكومة المنضمين للحركة في ولايات "زابل، قندهار، سربل، جوزجان، فارياب، غور، بادغيس، لغمان، كنر، ننجرهار، نورستان، غازي آباد، بكتيا، خوست لوكر، بكتيكا، براون، كابل، كبيسا، بلخ، سمنكان، بغلان، تخار، بدخشان، وكندز"، سلّموا لقوات طالبان أسلحة خفيفة ومتوسطة. وقبل سقوط كابول توسطت القبائل بين الجيش وطالبان من أجل استسلام أفراد الجيش، مقابل العفو عنهم، وفق درويش.

الصورة
تحقيق أفغانستان2

إحجام القوات الخاصة عن مواجهة طالبان

ساهمت القوات الخاصة الأفغانية (يبلغ عددها 34500 فرد حتى 2018) في انهيار الجيش أمام طالبان، نتيجة رفضها تنفيذ أوامر المسؤولين الأفغان، وفق الضابط عفيف والذي أكد لـ"العربي الجديد" أن القوات الأميركية كانت صاجبة الكلمة المؤثرة على القوات الخاصة وهي التي دربتها، وبالتالي منعتها من المشاركة في الحرب على طالبان، ويقول: "كُثر من ضباط الجيش والاستخبارات والداخلية يدركون هذه القضية وبالتالي لجأوا إلى الفرار إلى تركيا والإمارات والهند قبل سيطرة طالبان". ويؤكد القائد الميداني في كتيبة بدري 313 التابع لطالبان، عبد الفتاح سميع لـ"العربي الجديد" أن القوات الأميركية طلبت من قيادة طالبان قبل الدخول إلى كابول عدم التعرض للأماكن التي تتواجد فيها القوات الخاصة الأفغانية، مشيرا إلى أن المروحيات الأميركية كانت تهبط بشكل مستمر في قاعدتين بالعاصمة كابول، وتنقل المتواجدين فيهما والمعدات منهما.

ونقلت القوات الأميركية أفراد القوات الخاصة مع أهاليهم إلى أميركا، حسب ما يقوله عطاء الله شقيق فيض الله، أحد أفراد القوات الخاصة، مضيفا أن فيض تم نقله مع أسرته إلى أميركا في الأيام الأخيرة بعدما أغلقت طالبان كل الطرق المؤدية إلى المطار.

وفي تسجيل صوتي للقائد السابق للقوات الخاصة، الجنرال هيبة الله علي زاي (عُين رئيس أركان الجيش الأفغاني في 11 أغسطس الماضي) يخاطب فيه عدد من الجنود، قائلا: "إننا لن نترك أحدا من القوات الخاصة في أفغانستان كما سنحاول أن نخرج الباقين، أما الموجودون من قوات الجيش فينتظرون إعلان طالبان عودتهم إلى العمل".

بينما يقول الملا عبد السلام ضعيف، القيادي السابق في طالبان، والسفير السابق للحركة في باكستان لـ"العربي الجديد" إن طالبان ستعلن قريبا إعادة ترميم الجيش مع إصلاحات كبيرة، لأن أي دولة تحديدا كأفغانستان نظرا لموقعها الاستراتيجي لا يمكنها الدفاع عن سيادتها إلا بوجود جيش قوي وحازم.