تتزايد المزارات الدينية الوهمية في العراق، بسبب ضعف إجراءات الرقابة الحكومية وضغوط المستفيدين من ورائها، إذ أصبحت تشكل مصدراً لجمع الأموال والهبات غير المراقبة، عبر استغلال عواطف الطبقات الفقيرة والمحافظة اجتماعياً.
- فقد العراقي وسام الإبراهيمي زوجته واثنين من أبنائه جراء انهيار تلة ترابية في مزار قطارة الإمام علي الذي يقصده المتبرّكون، لاعتقادهم أن عين الماء المقام عليها المزار في الصحراء الغربية لمحافظة كربلاء جنوب بغداد قد مرّ بها علي بن أبي طالب عليه السلام عندما توجه إلى معركة صفّين وشرب منها وجيشه ولا يزال يجري ماؤها حتى الآن، بحسب ما يوضحه معاون الأمين العام للشؤون الثقافية والفكرية في الأمانة العامة للمزارات في ديوان الوقف الشيعي هاشم العوادي، مشيراً إلى أن "المزار الذي شهد الانهيار في 20 أغسطس/آب 2022 والذي راح ضحيته 8 أشخاص، بينهم 5 نساء وطفل، شيد عام 2014 قرب الموقع التاريخي، وهو واحد من المزارات غير المسجّلة لدى الأمانة العامة أو أي مؤسسة من مؤسسات الوقف الشيعي، وهذه المزارات يقدّر عددها بـ 529 مزاراً، تتوزّع على المحافظات العراقية، منها ما هو وهمي ولا وجود لقبور أئمة فيه، وأخرى قد تكون مشيدة قرب مكان يحمل ذكرى مناسبة دينية أو تاريخية لكنه كذلك غير مسجل رسمياً".
الظاهرة تتمدد
تشمل المزارات "العمارات التي تضم مراقد مسلم بن عقيل وميثم التمار وكميل بن زياد والسيد محمد ابن الإمام الهادي والحمزة الشرقي والحمزة الغربي والقاسم الحر وأولاد مسلم وغيرهم من أولاد الأئمة وأصحابهم والأولياء الكرام من المنتسبين إلى مدرسة أهل البيت عليهم السلام في مختلف أنحاء العراق"، وفقاً للمادة 2 من قانون إدارة العتبات المقدسة والمزارات الشيعية الشريفة رقم 19 لعام 2005.
ويتفوّق عدد المزارات غير المسجلة على عدد المزارات المسجلة رسمياً في العراق والتي بلغ عددها 167 مزاراً، بحسب جرد أجري عام 2021 من قبل ديوان الوقف الشيعي. ويلفت العوادي إلى أن رقم المزارات غير المسجلة قابل للزيادة، في ظل ضعف الإجراءات الحكومية، ووجود ضغوطات أمنية وسياسية ونفوذ عشائري وجهات متنفذة أخرى تدعم هذه الظاهرة.
529 مزاراً غير مسجلة في العراق، من بينها أضرحة وهمية
ولا تعد الظاهرة جديدة، بل كانت موجودة قبل عام 2003، ولكنها تضاعفت وأصبحت تبعاتها خطيرة، نظراً لاستغلالها غطاء الدين وإطلاق أسماء العلماء والصحابة عليها، وذلك ينسحب على المناطق السنية والشيعية، بحسب خالد عبد الوهاب الملا، رئيس جماعة علماء ومثقفي العراق (إسلامية)، معتبراً أن ما يجري في المزارات تلك يدلل على أن هناك جهات تقف وراءها وليس أشخاصاً بسطاء، وتكمن خطورتها في أنها خارجة عن سلطة الدولة، وتستغل الدين، ما يشكل تحدياً أمام المؤسسات الأمنية التي لا تستطيع منع أو غلق هذه الأماكن بسبب "العناوين المقدسة" التي تستخدمها وكذلك خشية اتهامها بالطائفية.
وتُستغل القرى والبوادي والصحارى البعيدى في العادة لفتح المزارات الوهمية، للتواري عن أعين الدولة، بحسب الملا، كما هو الحال في مزار قطارة الإمام علي الذي أقيم وسط الصحراء وكان يدار من قبل 4 أشخاص، ويتصرّفون بإيراداته ويتحكمون بكل ما يتعلق به، علماً أن إدارة وتسيير شؤون العتبات والمزارات والعناية بها وصرف وارداتها وفق الضوابط الشرعية والقانونية تعدّ من مهام دائرة العتبات المقدسة والمزارات الشريفة في ديوان الوقف الشيعي، بحسب ما نصّت عليه المادة الثالثة من قانون إدارة العتبات المقدسة والمزارات الشيعية الشريفة.
تجارة المزارات
يعود رفض القائمين على المزارات غير المسجلة إلحاقها رسمياً بالديوان إلى طمعهم بالتصرف بالأموال الواردة كافة إلى المزارات من الزائرين له، إذ إن تنظيم الأمور الإدارية والمالية للمزار يعني جرد ما يوهب له من أموال، وإيداعها في حسابات مصرفية ولا يتم التصرف بها إلا من أجل المزار، وهو ما حصل في حالة قطارة الإمام علي الذي عرقل أحد القائمين عليه ضمه للديوان، بحسب العوادي، مشيراً إلى أن المشكلة تكمن في كيفية إقناع القائمين على هذه المزارات بضرورة تسليمها إلى الجهة الحكومية المختصة بالمزارات، "فالأمر مستحيل، لأنه كمن يطلب من صاحب مصرف تسليم مصرفه"، بحسب وصف العوادي، وهي إشارة إلى ما تدره هذه المزارات من أموال لصالح القائمين عليها، علماً أنه لا يجوز لأي شخص التصرف بمزار معين دون إذن الحاكم الشرعي أو المرجعية الدينية في النجف، لكن مسؤولية الأمانة العامة للمزارات تقع على كل مكان يضم أولاد الأئمة وأصحابهم والأولياء الكرام من المنتسبين إلى مدرسة أهل البيت في مختلف أنحاء العراق، وفي حال كان المزار غير حقيقي، أي وهمي، ترفع عنه اليد، وهنا تأتي وظيفة الحكومة المحلية في المحافظات التي تحتوي على هذا النوع من المزارات لاتخاذ الإجراءات المناسبة، كونها تُعدّ خطراً على المجتمع وفيها تجاوز صريح، كما أنها باب للاتجار، لذلك يرى العوادي أن التعامل مع المزارات غير الحقيقية يتطلّب أسلوباً خاصاً من قبل الإدارة المحلية كون الأمر يتعلق بعقائد الناس.
تنشئ عائلات وأحزاب مزارات وهمية من أجل جمع الأموال
ووصل الحال إلى إنشاء أسرٍ مزارات لها؛ مثل مزار السيد سيف البوعميمة الذي يقع في منطقة الجذع في ناحية السنية التابعة لمحافظة الديوانية جنوب البلاد، وهو يعتبر المزار الثالث لنفس الأسرة في المنطقة ذاتها، لكنها تتوزّع على قرى مختلفة، ويستقطب المزار الرئيسي الذي أنشئ عام 2016 الزوّار الذين يتبركون به ويعتقدون أنه سيحقق أمنياتهم، ويقدم هؤلاء الأموال والهدايا والنذور التي تذهب لأسرة المتوفى، وفق أبو يوسف (كما طلب تسميته) أحد ساكني المنطقة والذي قابلته معدّة التحقيق.
ولا يقتصر الأمر على جمع الأموال بل وصل إلى المخاطرة بأرواح الناس وإنشاء مزارات في أماكن معرّضة للخطر كما هو الحال في مزار قطارة الإمام علي، وتتكون المنطقة أساساً من الرمل الصخري المتداخل مع ترسبات من الأملاح الكبريتية القابلة للتحلل والانهيار بفعل الرطوبة الناجمة عن المياه الجوفية والسطحية ومياه الأمطار والرياح والاستخدامات البشرية، وفق توضيح الجيولوجي المتخصص في علم المتحجرات الدقيقة صباح حسن عبد الأمير، الموظف سابقاً في وزارة الموارد المائية.
نسْب مزارات وهمية للأئمة وذرياتهم
جالت معدة التحقيق في مزار يطلق عليه مقام نبي الله أيوب، وفق ما كتب على اللافتة الرئيسية على مدخله في محافظة الديوانية، وعلى جانبي المدخل توجد لوحات معلقة على أسلاك كُتبت عليها عبارات شكر وامتنان من أشخاص "تحققت أمانيهم في النجاح والشفاء من الأمراض والعقم وغيرها"، بحسب ما يقول جواد كاظم الغزالي، الذي يشرف على المكان مع 20 فرداً من العائلة، يقدمون الخدمات للزائرين، وقد توارثوا المكان عن أجدادهم.
والمبنى بحسب معاينة معدّة التحقيق عبارة عن غرفة صغيرة يتوسطها قبر محاط بنوافذ، وفيها قفل وقطع قماش ملوّنة مكتوب عليها هذا قبر زوجة النبي أيوب "رحمة بنت افرائيم بن يوسف بن يعقوب".
في المقابل، يوضح غالب إبراهيم الكعبي، الباحث في التاريخ والتراث، والمؤسس والمدير السابق لمركز الذاكرة الموسوعية في محافظة الديوانية (مستقل) لـ"العربي الجديد" أنه لا يوجد قبر لزوجة النبي أيوب في الديوانية، ولا حتى مقام للنبي أيوب، مؤكداً أن القبر يعود إلى رجل هندي كان يعيش في الديوانية بداية القرن العشرين حين كان الهنود موجودين بكثرة في العراق للعمل، وتوفي في وقت كان من الصعب فيه الدفن في مقبرة النجف، فتولّى بعض الناس دفنه في منطقة خالية من السكان سابقاً كانت تسمى بالشوصة، وهو ما يؤكده الشيخ نعيم سلطان مسؤول العلاقات العامة والدعم اللوجستي لمزارات الديوانية والمثنى (جهة حكومية تابعة للأمانة العامة للمزارات الشيعية)، مؤكداً أن بعض المراقد يضع القائمون عليها قبوراً يدّعون أنها لأولاد أو لزوجات أئمة، حتى يضيفوا أهمية إلى المكان ويحقق فائدة مادية للقائمين عليه، وقد أشار كذلك إلى وجود 16 مزاراً رسمياً فقط في الديوانية تحت إشراف الأمانة العامة للمزارات الشيعية، أما الوهمية فقد تجاوز عددها 40 مزاراً وهي تتكاثر يومياً.
وحذر المرجع الديني الشيعي محمد اليعقوبي من ظاهرة انتشار المزارات المنسوبة إلى "أولاد الأئمة والصالحين" دون التحقق من صحة أنسابها، في بيان نُشر عبر موقعه الرسمي على الإنترنت عام 2013 جاء فيه أن "كثيراً من هذه المراقد وهمية صنعها بعض ذوي النفوس المريضة الذين لا ورع لهم ولا دين ليجمعوا بها الأموال من السذج والجهلة ويروون لهم كرامات مفتعلة". وأضاف "هذه ظاهرة ابتلي بها الشيعة، ليس في العراق فقط بل في الدول الأخرى التي لهم وجود فيها، وقد ثبت بالدليل القاطع أنها لا أصل لها وإنما نُسبت إلى الصالحين لأغراض عديدة".
ويتفق الباحث في الشؤون الإسلامية أشرف محمد الساعدي مع ما سبق، مشيراً إلى بحث استمر 3 أشهر لمعرفة حقيقة أحد المزارات في مدينة العمارة مركز محافظة ميسان شرق البلاد، ليجد أنه قبر يعود إلى رجل فقير لم يعرف عنه شيء خلال فترة النظام السابق، وبعد سقوط النظام عام 2003 تولّى حزب تشييد بناء فوقه وأطلق عليه مقام السيد علي الزكي، وأصبح الناس يقصدونه للزيارة والتبرّك، علماً أن الزكي (عالم من نسل علي بن أبي طالب) عاش في أصفهان جنوب طهران ولم يدخل الأراضي العراقية قط، بحسب الساعدي.
ويتفق الباحث الأكاديمي والذي يحمل شهادة الدكتوراه في الدراسات الثقافية عقيل عباس مع ما سبق مفسرا انتشار المزارات الوهمية بارتباطها بالجانب الروحي الذي بدأ يبرز بين الناس بعد عام 2003 بسبب الآلام والمصاعب الكبيرة التي واجهتها الطبقات الفقيرة والمحافظة اجتماعياً التي تميل إلى التدين، إذ يجد الناس في هذه المزارات عزاءات روحية، كما يقتنعون بدورها في حل مشكلاتهم والقضاء على أمراضهم.