يحرم الاحتلال أطفال غزة وحالات مرضية مستعصية من استكمال علاجهم خارج القطاع المحاصر، إذ تفتقر مشافيه لمتطلبات تخفيف آلام من يعانون لفترات طويلة، ما يؤدي إلى فشل "بروتوكول" التداوي وعدم فعالية التدخل الطبي.
- تدهورت الحالة الصحية للطفلة الغزية جوري قديح، ذات الخمسة أعوام، بداية العام الجاري، بعد مماطلة سلطات الاحتلال ومنع إصدار تصريح يتيح استكمال علاجها في مستشفى المقاصد بمدينة القدس المحتلة، إذ تعاني مرضا مناعيا تسبب في معاناتها من متاعب صحية بدأت قبل ثلاثة سنوات.
سافرت قديح إلى القدس أربع مرات خلال العامين الماضيين، لكن تصريح استكمال علاجها تعطل منذ أربعة أشهر، وحصلت على ردود سلبية، إما بأن معاملة تصريحها "قيد الفحص" ستة مرات، أو بالرفض في مرات أخرى، ما حال دون وصولها إلى المستشفى، وتدهورت حالتها.
ورغم عدم وجود علاجها داخل القطاع، نقلتها عائلتها إلى مستشفى غزة الأوروبي عدة مرات من دون فائدة، إذ أكدت لهم طبيبتها المعالجة بالقدس على ضرورة عودتها إلى المستشفى في مواعيد محددة، كما تقول والدتها نداء قديح.
عراقيل في وجه المرضى
تعد قديح واحدة من بين 1200 مرضى عرقل الاحتلال عودتهم للعلاج في مستشفيات بالضفة الغربية والقدس والداخل المحتل منذ بداية عام 2022 وحتى نهاية مايو/أيار الماضي، رغم حصولهم على موافقات وتصاريح إسرائيلية سابقة لاستكمال رحلات علاج بدأوها في السابق، في حين بلغ عدد حالات الرفض والمماطلة لمرضى منعوا من استكمال العلاج خلال العام الماضي 3500 حالة، ثلثهم من الأطفال، وفق بيانات وأرقام حصل عليها معد التحقيق من دائرة تنسيق الصحة التابعة لوزارة الصحة، والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، والهيئة الدولية لحقوق الشعب الفلسطيني "حشد".
وتلقى مركز الميزان لحقوق الإنسان فرع "المحافظات الجنوبية"، منذ بداية العام الجاري وحتى نهاية مايو الماضي، 211 شكوى من مرضى حرموا من العلاج بمستشفيات الضفة الغربية أو الداخل المحتل، بمتوسط 42 شكوى شهرياً، منها 100 شكوى بسبب المماطلة في مواصلة العلاج، ومنح المرضى تصاريح عودة للمستشفيات التي يتابعون معها، بحسب محامي المركز المكلف بملف تصاريح المرضى يحيى محارب.
وبعد تلقي المركز شكوى من المرضى المحرومين من استكمال العلاج، يبدأ التحرك القانوني لمساعدتهم في العودة إلى مستشفى، سواء في الضفة الغربية أو القدس أو الداخل المحتل، وفق محارب، الذي أوضح أنهم يخاطبون ما يسمى بـ"مديرية الارتباط والتنسيق الإسرائيلية"، إذ يقدم المركز طلباً قانونياً يطالب فيه بالسماح للمريض ومرافقه بالعودة للمستشفى حتى يستكمل علاجه، خاصة أنه منح تصريح مغادرة غزة في السابق، وهذا المستوى من التدخل هو الأعلى ويحتل 80% من مجموع المحاولات، وفي حال عدم التجاوب أو عند الحصول على ردود سلبية (تحت الدراسة أو بحجة توفر العلاج في قطاع غزة)، نتجه للخطوة الثانية وهي مخاطبة النيابة الإسرائيلية، وثمة ما بين خمسة إلى عشرة تدخلات شهرية في هذا المستوى، وفي حال التجاهل، نتوجه للقضاء الإسرائيلي في محاولة أخيرة لإصدار أمر محكمة يسمح للمريض بالعبور.
وتحصل نسبة تتراوح بين 40% و50% من الطلبات، التي تستأنف فيها مراكز حقوق الإنسان لتمكين مرضى من السفر لدى مديرية الارتباط والنيابة الإسرائيلية، على تصاريح، والباقي تُرفض عودتهم إلى المستشفى وفق محارب، "لكن للأسف بعضهم فارق الحياة بسبب هذا المنع".
فرصة واحدة فقط
يصدر تصريح العلاج، سواء في أول مرة أو في حالة استكمال المتابعة مع المشفى، بعد الحصول على نموذج التحويل من قبل المستشفى الحكومي في القطاع، إذ يتقدم المريض بطلب من أجل الحصول على تحويلة طبية عبر دائرة شراء الخدمة بوزارة الصحة، التي تتقدم بطلب حجز موعد في مستشفى متخصص، وبدوره يرد بتوفر العلاج للمريض، ويحدد له موعدا للقدوم، لتُرسل كل الأوراق إلى الاحتلال من أجل نيل تصريح مغادرة، على أن تتكفل الوزارة بكافة النفقات، ويشترط الاحتلال وجود 14 يوماً على الأقل بين توقيت إرسال الأوراق وموعد المستشفى، بحسب توضيح دائرة تنسيق الصحة ووزارة الشؤون المدنية.
ضياع الفرصة الذهبية للتدخل والعلاج يقتل المريض
ويجرى عرض التقارير على لجنة طبية إسرائيلية، وبدورها تعطي توصية للجهات الأمنية حول الحالة، حسب محارب الذي يوضح أن ثلث الطلبات التي تقدم تعرقلها اللجنة، إما بزعم وجود علاج للحالة في غزة، أو عدم استكمال الأوراق، وأحيانا يطلبون تقارير طبية معتمدة من أطباء بعينهم، ناهيك عن عراقيل الجهات الأمنية، وهي الأصعب، ما قد يتسبب بضياع موعد المستشفى، وانتهاء صلاحية التحويلة الطبية، ليعاود المريض الكرة من جديد بحثا عن تحويلة طبية أخرى، وموعد مستشفى جديد، وهو ما يستغرق ما بين 30 و40 يوماً، ما يعني مزيداً من تفاقم حالته الصحية، وهو ما تكرر مع الأربعيني إبراهيم زعرب، الذي يقطن في محافظة خان يونس جنوبي القطاع، إذ يعاني من تكسر في الصفائح الدموية منذ عام 2019، وسمح الاحتلال له بمغادرة القطاع والوصول إلى مستشفى المطلع بالقدس ست مرات فقط، بينما منذ بداية العام الجاري رفضت طلبات تصاريح العلاج التي تقدم بها بشكل متكرر، عبر رد لم يتغير بأن طلبه "تحت الدراسة"، ما حال دون عودته إلى المستشفى الذي يتابع علاجه فيه، وحتى مايو الماضي، لم يسمح له بالوصول إليه سوى مرة واحدة فقط، رغم حاجته للعودة كل 28 يوماً للحصول على جرعات علاج غير متوفرة في غزة، ما فاقم آلامه وزاد مرضه.
ويحصل المريض ومرافقه على تصريح سفر من الاحتلال محدد بيوم واحد فقط، وفي حال حدث أمر طارئ أو خلل في إبلاغه، يفقد حقه في السفر، وعليه خوض كل الإجراءات من جديد، كما يقول محارب.
رفض تعديل زمان تصاريح العلاج ومكانها
تقدمت مؤسسة "أطبّاء لحقوق الإنسان" الإسرائيلية، في يونيو/حزيران الماضي، بطلب إلى منسق شؤون الحكومة في المناطق المحتلة، لمنح تصاريح إقامة للمرضى تتناسب مع طبّيعة الرعاية الطبّيّة اللازمة لهم، على أن تكون مدة تصريح مرضى السّرطان والمرافق ثلاثة أشهر، ما يسمح لهم بالعودة إلى منازلهم في غزة، ومن ثم التوجه إلى المستشفيات أوقات العلاج، من دون الحاجة للتقدم للحصول على تصاريح جديدة، كما طالبت المؤسسة بعدم جعل التصريح مقتصراً على المكوث في منطقة المستشفى وحدها، بما يتيح حريّة الحركة والتنقل للتفرغ للاحتياجات اليوميّة، لكن الطلب قوبل بالرفض، وفق رسالة بريدية صادرة عنها.
وأرفقت المؤسسة بطلبها تقريرا طبيا صادرا عن الدكتورة رعياة ليبوفيتش، مديرة قسم السّرطان في مستشفى شامير والمتطوعة في الجمعيّة، والتي قالت "إنّ الانحراف عن بروتوكول العلاج من شأنه أن يضرّ بنجاعته، وهو أمر لا يُنصح به، وعدم تلقّي العلاج في موعده أمر من شأنه أن يتسبب في تطور المرض، وتفاقم حالة المريض، ولا منطق طبّيا في منح المريض تصريحاً لمرة واحدة".
خطورة إيقاف العلاج
تخضع مواعيد التدخلات الطبية، سواء العلاجية أو الجراحية، لبروتوكول طبي دقيق، وهناك ما يسمى "الفرصة الذهبية للتدخل"، وبناء على ذلك، يحدد الطبيب موعداً لعودة المريض لاستكمال علاجه، وفق الدكتور محمود الشيخ علي، استشاري ورئيس قسم الباطنة بمستشفى غزة الأوروبي.
ويشكل وقف العلاج انتكاسة كبيرة وتحديدا في حالة أمراض الدم، والروماتيزم، والسرطان، والأمراض المناعية، ومشاكل القلب المستعصية، والغدد، أو التأخر في الحصول عليه، وكذلك في إجراء التدخل الجراحي في وقته، وحتى لو عاد المرضى بعد فوات الأوان، فقد لا تستفيد أجسادهم من العلاج، لأن وقت جرعاته فات، وقد يؤدي ذلك للوفاة، بحسب الطبيبان الشيخ علي ومحمد أبو سلمية، مدير عام مجمع الشفاء الطبي، وهو ما حدث مع الطفلة فاطمة المصري التي تبلغ من العمر عامين، إذ توفيت خلال انتظارها الحصول على تصريح لمغادرة القطاع لاستكمال علاجها.
ويقول والدها جلال: "انتظرنا التصريح منذ ثلاثة أشهر لاستكمال رحلة علاج سبق أن بدأتها منذ عام، إذ كانت تعاني مشكلة في القلب والرئتين، لدرجة أن المستشفى اتصلت بي عدة مرات لحثي على القدوم سريعاً لإنقاذ حياتها، لكن الاحتلال رفض إصدار تصريح لها، إلى أن توفيت"، وهو ما دعا مركز الميزان للتقدم بطلب فتح تحقيق ضد مديرية التنسيق والارتباط الإسرائيلية لدى مكتب المدعي العام العسكري الإسرائيلي، لتسببها بقتل الطفلة فاطمة، بعد التلكؤ في إصدار تصريح لها، رغم المعرفة المسبقة بخطورة حالتها. وأسفرت إجراءات منع المرضى من استكمال علاجهم عن وفاة 4 من المحولين للعلاج خارج قطاع غزة، من بينهم طفلان، خلال عام 2021، كما وثق مركز الميزان وفاة 63 مريضاً في ظروف مماثلة، بينما كانوا ينتظرون الحصول على موافقة سلطات الاحتلال للمرور عبر حاجز (إيرز) خلال الفترة من 2017 وحتى 2021، من بينهم 8 أطفال و22 سيدة.
1200 حالة منع الاحتلال استكمال علاجها خارج قطاع غزة
ويصف محارب والطبيبان أبو سلمية والشيخ علي ما يحصل بـ"إعدام للمرضى"، فاللجنة الطبية الإسرائيلية في معبر "إيريز" تعي خطورة قطع العلاج عن مريض في منتصف الطريق، خاصة من يخضعون "لبروتوكول علاجي" محدد بمواعيد وجرعات دقيقة، وهو ما تخشاه الشقيقات سوزان خطاب 21 عاما، وسجى 15 عاماً، وسما 10 سنوات، اللواتي يعانين مرضا وراثيا نادرا في الكليتين، يسبب تلفا غير قابل للإصلاح.
وسمح الاحتلال لسوزان وسجى بالسفر مرتين بعد تدخلات قانونية من مؤسسات حقوقية، وتلقتا جزءا من علاج مفترض أن يتواصل باستمرار، لكنهما منذ بداية العام الجاري مُنعتا من مغادرة القطاع، وشقيقتهما سما التي اكتشف الأطباء إصابتها بنفس المرض لم يسمح لها بالسفر مطلقاً.
وعرقل الاحتلال خلال العام الماضي سفر 7514 مريضاً ومنعهم من الوصول لمستشفيات الضفة والقدس والداخل من أصل 21532 طلب تصريح للعلاج، أي ما نسبته 34.8% من إجمالي الطلبات، بينما كانت 60% من حالات الرفض لمرضى سبق أن سمح لهم بالمغادرة وتلقي جزء من العلاج، بحسب تقرير صدر عن المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان (أهلي) في السابع من إبريل/نيسان الماضي.
ويتجاهل الاحتلال القوانين الدولية ويضرب بها عرض الحائط، إذ تفرض عليه تسهيل تحرك المرضى ومرافقيهم من أجل الوصول للمستشفيات وقتما حدد الطبيب المعالج ذلك، ويقع على عاتقه التزام أصيل بتوفير متطلبات شروط الصحة العامة والحق في العلاج، وفقاً لما تقتضيه أحكام اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، ومعايير القانون الدولي لحقوق الإنسان، بحسب محارب والذي يقول إن انتهاك الاتفاقية والقانون الدولي يُشكل مخالفة تقتضي التحرك واتخاذ الإجراءات المناسبة من قبل المجتمع الدولي لوقف القتل البطيء في غزة.