تلوث الهواء يجهض الأجنّة في الصين (Getty)
27 مايو 2024
+ الخط -
اظهر الملخص
- التلوث الناتج عن الصناعة في الصين يؤدي إلى موت الأجنة ويزيد من حالات الإجهاض، مع تأكيد الدراسات على العلاقة المباشرة بين التلوث الهوائي وهذه المشكلات الصحية.
- مقاطعة خبي تعكس تأثير التحول الصناعي على جودة الهواء وصحة السكان، خصوصًا الحوامل، بسبب تلوثها الشديد نتيجة الصناعات الثقيلة.
- الجهود الحكومية لتحسين جودة الهواء لم تكن كافية لمواجهة التحديات البيئية والصحية، مما يهدد الاستقرار الديموغرافي ويستدعي تدابير أكثر فعالية واستدامة.

يدفع صينيون ثمن تحول بلادهم إلى مصنع للعالم، إذ تقتل جزيئات الكربون الأسود المنتشرة في الهواء الأجنة بعدما تنتقل إليهم في بطون أمهاتهم، ما يسهم في مزيد من التدهور الديموغرافي للبلاد التي تعاني الشيخوخة وتبعاتها.

فقدت الثلاثينية الصينية مي لينغ، جنينها في 15 يناير/كانون الثاني من عام 2021 بينما كان في شهره السادس، وبعد إجراء تحاليل متعددة، تبين أن سبب الإجهاض يعود إلى دخول جزيئات دقيقة من الكربون الأسود، (ينبعث من عوادم السيارات وأدخنة المصانع التي تعمل بالفحم)، عبر القصبة الهوائية للأم واختراقها جدار المشيمة، مما تسبب في اختناق الجنين وموته.

وتعد لينغ واحدة من بين 122 امرأة فقدن أجنتهن للسبب ذاته، كما يقول الطبيب دا تشونغ، الذي تابع الحالات في مستشفى خبي التخصصي (حكومي)، شمال الصين على الأطراف الشرقية لبكين، موضحا أن 64 في المائة منهن فقدن الأجنة في الثلث الأول من الحمل في العام ذاته، لأسباب لها علاقة بتلوث الهواء في مقاطعة خبي، والقاسم المشترك بينهن دخول جزيئات من الكربون المركز (أول أكسيد الكربون) من الهواء إلى جدار الرحم، بما يتراوح بين 1.11 و 1.24 (PM2.5 - وحدة القياس) وبالتالي يصعب وصول الأوكسجين إلى الأجنة ما يؤدي إلى الموت اختناقا.

ويؤثر تعرّض الحوامل بصورة مستمرة للهواء الملوث على الدورة الدموية، لأن الجزيئات الدقيقة من الملوثات تدخل عبر الاستنشاق ولا تستقر في الرئة فحسب بل تتسرب إلى مجرى الدم، وتضعف الأوعية الدموية لدى الأم وتقلص تدفق الدم عبر الحبل السري إلى الجنين وتحرمه من كمية الأوكسجين والمواد المغذية التي يحتاجها ليبقى على قيد الحياة، بحسب تشونغ.

 

نسب التلوث التي تؤدي إلى الإجهاض وموت الأجنة

بات من المؤكد أن تلوث الهواء يؤثر بشكل سلبي كبير على صحة الحوامل وأجنتهن، وفق معطيات وأدلة استند إليها مشفى خبي، وجرى جمعها خلال الأشهر الماضية، وخلال الفترة من الأول من يناير 2021 وحتى منتصف 2023 أجرى القسم المخبري في المشفى دراسة على السجلات السريرية لـ 2500 ألف امرأة حامل، ووجد أن 370 منهن تعرضن للإجهاض المبكر في الأشهر الثلاثة الأولى للحمل، و223 حاملاً فقدن أجنتهن بعد الشهر السابع رغم أنه لم تظهر عليهن علامات الإجهاض في الشهور الأولى، كما يوضح الطبيب تشونغ، معيدا سبب الوفيات أثناء الحمل إلى ضعف جدار المشيمة في تلك المرحلة وسهولة وصول الجسيمات الملوثة، ويعود التفاوت بين شهر وآخر في وفاة الأجنة إلى نسب تقلص تدفق الدم للجنين عبر الحبل السري، إذ إن تعرض الحامل لهواء ملوث بنسبة 60 ميكروغراما (من جزيئات PM2.5) لكل متر مكعب، من شأنه أن يتسبب في إجهاض الجنين.

وتزداد فرص ولادة جنين ميت عند زيادة تركز جزيئات PM2.5 في الهواء، وحين يصل تركيز الجزيئات التي تخترق جدار المشيمة إلى 1.24 (نسبة تركيز جزيئات PM2.5 التي تحيط بالجنين) يؤدي ذلك إلى موته على الفور وفق الطبيب تشونغ، أما نسبة 1.11 من الجزيئات الملوثة فقد تؤدي إلى نقص في كمية الأوكسجين ما يتسبب في الإجهاض المبكر، بينما نسبة أقل من 1.05، وفق تشونغ، لا تتسبب بأي أضرار.

 

64 ألف جنين يجهضون سنوياً

يموت 64 ألف جنين (متوسط عدد المواليد الجدد 10 ملايين كل عام) سنويا نتيجة للهواء الملوث في كل مقاطعات الصين، بحسب دراسة بعنوان "تقدير حالات الإملاص (ولادة طفل دون أن تظهر عليه علامات حياة) التي تعزى إلى الجسيمات الدقيقة" والتي أجرتها كلية العلوم والهندسة البيئية في جامعة بكين، ونشرت في شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 2022 في مجلة نيتشر كوميونيكيشنز (علمية متخصصة).

64 ألف جنين يموتون سنوياً نتيجة للهواء الملوث في الصين

وتحتل الصين المرتبة الرابعة بعد الهند وباكستان ونيجيريا من حيث عدد حالات الإجهاض المرتبطة بتلوث الهواء كما جاء في الدراسة التي لفتت إلى أن الجزيئات التي تعبر المشيمة قد تسبب أضراراً جسيمة للأجنة لا يمكن إصلاحها، وقد تمنع أيضاً الجنين من الحصول على كمية كافية من الأوكسجين ما يؤدي إلى وفاته، كما يؤكد الباحث في المركز الوطني للطاقة البديلة (حكومي مقره بكين) لي وان، والذي أشار إلى أن الدراسة تعد الأولى في تقدير العدد الدقيق لوفيات الأجنة.

وتعد مقاطعة خبي واحدة من أكثر المناطق تلوثاً في البلاد باعتبارها موطناً للصناعات الثقيلة التي تعتمد في إنتاجها على الوقود الأحفوري، وما زاد من معدلات التلوث بها، خطة إغلاق المصانع التي أعلنتها الصين في عام 2016 خلال اجتماع سنوي لقادة منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وشملت 2500 مصنع ملوث للهواء في بكين تم نقلها إلى خبي المجاورة، ضمن سعي السلطات إلى تخفيف معدلات التلوث في العاصمة وهو ما يعد أحد أجزاء مخطط السور الأخضر العظيم.

مخالفة مبادئ منظمة الصحة العالمية

رغم أن بكين حققت تحسناً في جودة الهواء بنسبة 56 في المائة بعد تفعيل الخطة السابقة، وفق تصنيف حديث صدر في يناير عام 2023، عن وزارة البيئة الصينية بعنوان "تصنيفات جودة الهواء للمدن الرئيسية في الصين"، لكن الباحث لي وان، يقول إن المتوسط الطبيعي لجزيئات PM2.5 في الهواء يبلغ 50 ميكروغراما لكل متر مكعب (في عموم الصين)، وهو ما لا يتطابق مع إرشادات منظمة الصحة العالمية ومبادئها التوجيهية لمستويات جودة الهواء فيما يخص ستة ملوثات: الجسيمات (PM) والأوزون (O₃) وثاني أكسيد النيتروجين (NO2) وثاني أكسيد الكبريت (SO2) وأول أكسيد الكربون، وتشير المنظمة إلى أن الجسيمات التي يساوي قطرها أو يقل عن 10 و2.5 ميكرومتر قادرة على النفاذ إلى عمق الرئتين بل يمكن للجسيمات التي يساوي قطرها أو يقل عن 2.5 ميكرومتر أن تنفذ إلى مجرى الدم، ما يؤثر على القلب والأوعية الدموية والجهاز التنفسي، والخطير أنه في ذروة التلوث في شهري نوفمبر وديسمبر/كانون الأول من كل عام ترتفع قراءة مؤشر هذه الجسيمات إلى 230 ميكروغراما لكل متر مكعب، بسبب نشاط المصانع وكثافة استخدام الفحم الأحفوري في فصل الشتاء، كما يقول وان.

الصورة
فشل في استيفاء معايير جودة الهواء

 

فشل في استيفاء معايير جودة الهواء

يرجع أول ارتباط بين وفيات الأجنة وتزايد معدل تلوث الهواء، إلى أواخر تسعينيات القرن الماضي، إذ كشف مسح وطني أجرته هيئات ولجان تحت إشراف وزارة الصحة في البلاد بين عامي 1998 و2002، أن 50 ألف امرأة فقدن أجنتهن خلال الأشهر الأولى من الحمل، وكان من اللافت أن الإبلاغ عن حالات الإجهاض تركز في العاصمة بكين شمالاً وفي مقاطعة خوبي وسط البلاد، والقاسم المشترك بين المنطقتين ارتفاع معدلات تلوث الهواء، على اعتبار أن المنطقتين موطن للصناعات الثقيلة، كما يفسر الأمر، الطبيب الصيني لو تشانغ، وهو عضو سابق في منظمة "أطباء بلا حدود" (عمل من 2016 حتى 2020).

ومن بين 338 مدينة مدرجة في إحصاءات المناطق الحضرية، استوفت 33 في المائة منها فقط المعايير الوطنية لجودة الهواء، في حين لم تلبِ 66 في المائة من هذه المدن معايير الجودة الوطنية (حُدد المعيار الوطني آنذاك بمتوسط 45 ميكروغراما من جسيمات PM2.5 لكل متر مكعب)، بحسب ما وثقه معد التحقيق عبر تحليل إحصائي صادر عن إدارة الدولة لحماية البيئة بعنوان "نشرة الحالة البيئية في الصين" في عام 2000، بينما يؤكد تصنيف حديث صدر في يناير عام 2023، عن وزارة البيئة الصينية بعنوان "تصنيفات جودة الهواء للمدن الرئيسية في الصين"، أن شيانيانغ وشيآن ووينان شمال غرب البلاد، كانت من بين المدن الثلاث الأولى من حيث نوعية الهواء الأسوأ في الصين، ومن بين 168 مدينة رئيسية مدرجة في إحصاءات الهواء في المناطق الحضرية، حققت كل من بكين، ومدينة تيانجين، تحسناً في جودة الهواء بنسبة 56 في المائة، بزيادة سنوية قدرها 13.7 نقطة مئوية.

ورغم هذا التحسن، إلا أن تقرير "نشرة الحالة البيئية في الصين" حذر من أن الوضع البيئي خطير للغالية، وأن الكمية الإجمالية للانبعاثات الملوثة كبيرة جداً، ولا يزال التلوث البيئي للمياه والهواء والتربة في المناطق الحضرية خطيراً، محذرا من عدم كبح اتجاه التدهور البيئي المتفاقم بشكل فعال، وعدّد التقرير عناصر التلوث وذكر منها: ثاني أكسيد الكبريت، وأكسيد النيتروجين، والكربون الأسود، والفلورايد والزرنيخ.

هل يمكن مقاضاة الجهات المسؤولة؟

لا تقرّ التقارير الطبية بالأسباب المباشرة لموت الأجنة، وإنما تشير إلى عامل التلوث دون اعتباره سبباً رئيسياً للوفاة، كما توضح المحامية الصينية بوو جيانغ، (لديها مكتب خاص للاستشارات القانونية في مدينة تيانجين)، وتقول: "تعد التقارير الطبية الخاصة بالإجهاض بمثابة وثيقة لوفاة الجنين دون الخوض في أسباب ذلك، وبالتالي لا يُعتبر التقرير الطبي في هذه الحالة حجة قانونية يمكن رفعها أمام المحاكم المختصة، فضلاً عن أنه لا يوجد طرف يمكن اختصامه، أي مثوله أمام المحاكم بصفته جانياً"، في هذه الحالات تُدرج الوفاة ضمن عمليات الإجهاض الطبيعية، لذلك لا يمكن، حسب قولها، رفع قضايا ولا للحصول على تعويضات من الدولة.

وتبدو خطورة المشكلة في ظل أن عدد سكان الصين بلغ في نهاية العام الماضي 1.409 مليار نسمة، بانخفاض قدره 2.08 مليون عن نهاية العام السابق كما بلغ عدد المواليد الجدد في نفس العام 9.02 ملايين، في حين أن عدد الوفيات 11.1 مليونا، بحسب بيان صادر عن المكتب الوطني للإحصاء في السابع عشر من يناير الماضي، الأمر الذي دفع السلطات إلى إيلاء المزيد من الاهتمام لمخاطر التلوث البيئي.

ولتحقيق هذه الغاية، يقول لي وان، اتخذت الدولة تدابير عديدة خلال السنوات الأخيرة، مثل الحد من بناء محطات الطاقة التي تعمل بالفحم والوقود الأحفوري، وخفض عدد السيارات على الطرقات للحد من عوادم المركبات. 

ولكن بالرغم من هذه الجهود الحثيثة، يقول وان إن مشكلة تلوث الهواء في الصين لا تزال قائمة بسبب حجم الصناعات الثقيلة في البلاد مقارنة مع دول العالم الأخرى، وكذلك التنمية الاجتماعية غير المتكافئة بين الريف والمناطق الحضرية.

ارتفاع معدلات التلوث يؤثر على نسبة الخصوبة المتراجعة في البلاد

وتكمن أوجه القصور في الخطط الحكومية، حسب الخبير الاقتصادي تشي جيانغ (باحث زميل في جامعة صن يات سن) في الاعتماد على الفحم من أجل توليد الكهرباء والطاقة (يمثل 57%)، وبالتالي يصعب الحد من انبعاثات الكربون ما دام جل الصناعات الثقيلة يعمل بالفحم، كما أن نقل المصانع من منطقة إلى أخرى لا يحل المشكلة، إذ يمكن أن يقلل ذلك من الانبعاثات في مناطق محددة، لكنها سوف تتضاعف بطبيعة الحال في الموطن الجديد، وهو ما يبدو في حجم جزيئات PM2.5 في الهواء بمقاطعة خبي والذي وصل بعد نقل المصانع إلى 122 ميكروغرام لكل متر مكعب، وبالتالي تبقى نسب التلوث ثابتة على المستوى الوطني، ولو شهدت تفاوتاً بين منطقة وأخرى.

من أجل ذلك يشعر الصينيون بقلق شديد من ارتفاع معدلات التلوث وتأثير ذلك على نسبة الخصوبة المتراجعة في البلاد، وما لذلك من تهديد للاستقرار الاجتماعي والديموغرافي، كما يؤكد الباحث لي وان، "خاصة أننا نتحدث عن خطر غير مرئي يمكن تسميته بالقاتل الصامت للأجنة".