يكشف تحقيق "العربي الجديد" كيف يتعرض المبلغون عن الفساد في تونس إلى اعتداءات متنوعة ومحاولات قتل، رغم أن بعضهم يحظى بقرارات حماية من هيئة المكافحة الوطنية، لكن إغلاقها في أغسطس الماضي بقرار رئاسي فاقم معاناتهم.
- تعرضت المتصرفة الإدارية التونسية سنية الحرباوي، (مسؤولة عن الرقابة والتقييم)، لاعتداء بالضرب في مأوى للسيارات أسفل بيتها في الضاحية الجنوبية للعاصمة، عقب التقدم ببلاغ إلى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، بعد حرق أرشيف محافظة بن عروس التي تعمل بها منذ 27 عاما والذي ضم وثائق ومعاملات مالية في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2019.
عمدت الحرباوي إلى توثيق الاعتداء عبر عدول التنفيذ (مساعد قضائي) وأثبتت تهشيم سيارتها وسيارة زوجها وتكسير مكتبها ليلا داخل المحافظة، لكن التهديدات من قبل مجهولين لم توقف، ما اضطرها إلى تغيير مكان إقامتها، ورغم ذلك مازالت تتعرض لتهديدات، حسبما تقول لـ"العربي الجديد".
ما وقع للحرباوي تكرر مع نوال المحمودي، المتفقدة السابقة في مركز المراقبة الصحية للحدود بميناء سوسة وسط تونس، والتي تعرضت للتهديد بالقتل في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، بعد إبلاغها عن شحنات قمح وصلت إلى تونس واشتبهت في كونها فاسدة، وكان آخرها في يونيو/حزيران 2021، كما تقول لـ"العربي الجديد"، وتضيف أنها أدلت بأقوالها حول الفساد في محاضر حررها عدول تنفيذ، هو ما تثبتت منه اللجنة المكلفة بالتحقيق البرلماني في شبهة توريد قمح فاسد، والتي أكدت في أكتوبر/تشرين الأول 2020 من خلال المعاينات والتحاليل أن جزءا من القمح كان فاسدا وغير صالح للاستهلاك الآدمي، حسبما يقول البرلماني عن حركة الشعب (حزب ناصري)، بدر الدين القمودي، رئيس لجنة الإصلاح الإداري والحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد بمجلس نواب الشعب الذي تم تجميده بقرار من الرئيس التونسي في 25 يوليو/تموز الماضي، مؤكدا لـ"العربي الجديد" :"إيقاف موظفين من وزارة الصحة معنيين بالرقابة الصحية كانوا على علاقة بالقمح المورد".
قرارات الحماية غير فاعلة
تحظى الحرباوي والمحمودي، بقرارات حماية من الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، "ضمن 180 مبلغا عن الفساد تقرر حمايتهم وفق نصوص القانون الأساسي عدد 10 لسنة 2017 المتعلق بالإبلاغ عن الفساد وحماية المبلغين والذي تمت المصادقة عليه من قبل مجلس نواب الشعب في جلسة 22 فبراير/شباط 2017، بحسب تأكيد الرئيس السابق للهيئة، عماد بوخريص لـ"العربي الجديد"، موضحا أن الهيئة تلقت 600 طلب حماية حتى مارس/آذار 2021، فيما يبلغ إجمالي الطلبات 828 بحسب موقعها االرسمي.
ويختار المبلغون التوجه إلى الهيئة، بدلا من القضاء، للكشف عن ملفات الفساد، مقابل الحصول على الحماية من كافة المضايقات والتنكيل الذي قد يتعرض له المبلغ في عمله، بحسب تأكيد القاضي الإداري والعضو السابق في الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، محمد العيادي، مؤكدا لـ"العربي الجديد"، على ضرورة أن تكون الملفات جدية إذ تتولى الهيئة التقصي حولها للتأكد مما ورد فيها، كما يجب توفر حسن النية بمعنى أن المبلغ يقدم الوثائق اللازمة ولا يكون هدفه الانتقام، وإنما إنارة الرأي العام وخدمة الدولة ومساعدتها على كشف الفساد في قطاع أو مؤسسة ما سواء كانت عامة أو خاصة، في مقابل قرار الحماية القانونية والجسدية لضمان سلامته، بعد تقدمه بطلب وإثبات تعرضه للتنكيل أو للمضايقات، أو يكون قد صدرت ضده قرارات تأديبية أو عقوبات جراء التبليغ عن الفساد.
لكن على الرغم من قرارات الحماية التي تصدر عن الهيئة بالتنسيق مع وزارة الداخلية، إلا أن المبلغين يتعرضون لانتهاكات واعتداءات، بحسب ثلاث حالات وثقتها معدة التحقيق، ومن بينهم المحمودي التي تعرضت لمحاولة تسميم في الخامس من ديسمبر/ كانون الأول 2020، بعدما شربت من قنينة ماء كانت موضوعة على مكتبها، مضيفة: "شعرت يومها بأوجاع شديدة في القفص الصدري، وشلل جزئي في الشق الأيسر وفقدت النطق ولون يدي مال للأزرق".
وتتابع: "خضعت لفحص الطبيب الشرعي وخلص التقرير الذي تم تسليمه للفرقة العدلية بكورنيش سوسة إلى وجود أعراض تسمم". وبينت أن مكالمات تصلها من أشخاص لا تعرفهم يهددونها بالتصفية الجسدية، إذا لم تتوقف، مؤكدة أن أحدث تهديد، كان حبلا تدلى أمام باب منزلها، في إشارة إلى شنقها.
تداعيات إغلاق هيئة مكافحة الفساد
ضاعف إغلاق الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (بأمر الوزير المكلف بتسيير وزارة الداخلية في 20 أغسطس/ آب 2021 ضمن التدابير الاستثنائية التي اتخذها الرئيس قيس سعيد في 25 يوليو/ تموز2021)، من معاناة المبلغين، إذ لم يجدوا من يمكنهم تقديم ملفاتهم إليه، بحسب تأكيد القاضي العيادي، والذي قال لـ"العربي الجديد": "عندما كانت الهيئة مفتوحة كانت تضغط على المؤسسات من خلال الاتصالات الهاتفية والمراسلات من أجل تطبيق قرارات الحماية الممنوحة للمبلغين"، وتابع: "في حال استمر الإغلاق على رئيس الجمهورية إعطاء التعليمات لمختلف المؤسسات بتنفيذ قرارات حماية المبلغين".
استمرار إغلاق الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد يضاعف من معاناة المبلغين
ولا يضع قرار إغلاق الهيئة في الاعتبار، أهمية مكافحة الفساد وخطورة عدم حماية المبلغين، ومن بينهم حالة مبلّغ قضت المحكمة الإدارية في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بإسناد الحماية له ولكن الهيئة مغلقة، كما توضح أية الرياحي، المستشارة القانونية في منظمة أنا يقظ (مستقلة تهدف إلى مكافحة الفساد)، والتي تابعت أن مجلس الهيئة لا يمكن أن ينعقد لتحديد شكل الحماية سواء بإيقاف التدابير الاستثنائية بحق المبلغ، أو توفير حماية شخصية له ولعائلته، وحول القضية التي تقدمت بها منظمة أنا يقظ للمحكمة الإدارية في 25 سبتمبر/ أيلول الماضي، لإبطال قرار غلق الهيئة ردت الرياحي، أن الملف لم يتقدم ولم تتم إعادة فتح الهيئة، رغم أن رئيس المحكمة الإدارية لديه شهر للبت.
وبسبب الفراغ الناتج عن تغييب الهيئة، تلقت "أنا يقظ"، 90 طلبا لمبلغين يريدون الحماية، منذ إغلاق الهيئة، لكن الأمر خارج نطاق إمكانيات المنظمة، حسبما تقول الرياحي، مضيفة: "مع استمرار إغلاق الهيئة، تتواصل مضايقة المبلغين، وستتمادى بعض المؤسسات في العقوبات التأديبية كالنقل التعسفي والفصل من العمل".
شكاوى كيدية
وعلى الرغم من القوانين الهادفة إلى مكافحة الفساد، إلا أن غياب الإرادة السياسية أضعف قانون الإبلاغ عن الفساد وحماية المبلغين كما يقول لسعد الزوادي رئيس المعهد التونسي للمستشارين الجبائيين (مستقل)، مضيفا لـ"العربي الجديد": "الفاسدون المبلغ عنهم ينجون من العقاب والدليل أنهم يمارسون وظائفهم فيتمادون في التضييق على المبلغين، ورئيس الجمهورية، مسؤول عن ما يتعرض له المبلغون".
ويتم التقدم بشكاوى كيدية ضد المبلغين، وفق المحامي لدى محكمة التعقيب بمحافظة سوسة، عبد الناصر المهري، والذي يترافع في قضية نوال المحمودي بعد إبلاغها عن شحنات القمح الفاسد، مضيفا لـ"العربي الجديد": "الفصل التاسع عشر من قانون الإبلاغ عن الفساد وحماية المبلغين، ينص على حماية المبلغ من أيّ ملاحقة جزائية أو مدنية أو إدارية أو أيّ إجراء آخر يلحق به ضررا ماديا أو معنويا إذا كان كل ذلك بمناسبة الإبلاغ أو تبعا له"، لكن بسبب الشكايات الكيدية يحجم البعض عن التبليغ عن الفساد.
وتقدم ديوان الحبوب الحكومي بقضية ضد نوال المحمودي في 24 يونيو/ حزيران 2021 بتهمة التآمر على أمن الدولة، كما تقول، وهو ما حدث مع عادل الزواغي معلم ثانوية، إذ أحيل للمرة الرابعة إلى مجلس التأديب بسبب كشفه ملفات فساد، يتعلق أحدها بتسريب امتحان بكالوريا في عام 2015، حسبما يقول لـ"العربي الجديد".
وسربت هويات المحمودي والحرباوي لرؤسائهما في العمل بمجرد تبليغهما عن الفساد، وفق تأكيدها، على الرغم من أن الفصل 22 من قانون الإبلاغ عن الفساد وحماية المبلغين ينص على أنه "يتعيّن الحفاظ على سرية هويّة المبلّغ بشكل كامل من قبل الهيئة، ولا تكشف هويّته إلا بعد موافقته المسبقة والكتابية".
كشف هوية المبلغين عن الفساد يعرضهم للتنكيل الإداري
ويفسر زبير التركي، رئيس المنظمة التونسية للتنمية ومكافحة الفساد المركزية (غير حكومية)، الكشف عن هويات المبلغين بأن الهيئة مثل أي مكان فيها شرفاء ومندسون، موضحا أنه في بعض الأحيان يتم الكشف عن معطيات شخصية لمبلغين بسبب مراسلة المؤسسات المعنية للتثبت من المعطيات التي قدمها المبلغ.
تأثير الفساد على اقتصاد تونس
وصل إجمالي البلاغات عن الفساد إلى 43459 بلاغا، بحسب الموقع الرسمي للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، ويمكن فهم العدد الكبير في ظل الخسائر السنوية جراء الفساد والتي قد تصل إلى 3 مليارات دولار، بحسب الرئيس الأسبق للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، شوقي الطبيب، والذي أكد في تصريحات لـ"العربي الجديد"، أن تراكم الخسائر في العديد من مؤسسات القطاع الحكومي يعود إلى سوء تصرف مالي وإداري، محذرا من تسبب الأمر في وضع بعض المؤسسات على مشارف الإفلاس.
وجاءت تونس في المرتبة 70 على مستوى العالم، (بين 180 دولة)، وفي المرتبة السادسة عربيّا على مؤشر مدركات الفساد للعام 2021 الصادر عن منظمة الشفافية العالمية، بـ 44 نقطة، وهو نفس الرقم الذي حصلت عليه في عام 2020، فيما حصلت في 2019 على 45 نقطة، وهي أعلى درجة تتحصل عليها منذ 10 سنوات، ما يعكس نقصا فادحا في مقومات الحوكمة والشفافية، تزامناً مع التضييقيات التي تمارس على المبلغين عن الفساد، بحسب أية الرياحي، لذلك يرى الزوادي، أن "الفساد طاول كل القطاعات، وعلى رئيس الجمهورية تسخير جل هياكل الرقابة لتفعيل مصالح الجباية والاستخلاص حتى لا تبقى بأيدي الفاسدين وتكتفي الدولة بالفرجة في الوقت الذي تغرق في المديونية".