تقتل دولة الاحتلال الناجين من قصفها عبر استهداف طواقم الدفاع المدني وتدمير معداتهم، في ظل اضطرارهم للإسراع من موقع إلى آخر لمحاولة انتشال ناجٍ فرصه في الحياة أكبر من غيره، بينما ظل آخرون يصرخون حتى لحقوا بأحبائهم.
- استأجرت عائلة ضهير الفلسطينية والتي تقطن في محافظة رفح جنوب قطاع غزة جرافة بناء مقابل 150 شيكلاً في الساعة (62 دولاراً أميركياً)، بعد شراء كمية من وقود السولار النادر بثلاثة أضعاف ثمنه، إذ أصبح سعر اللتر 15 شيكلاً (4 دولارات) بعدما كان 6 شواكل (دولار ونصف)، بسبب الحصار الإسرائيلي ورفض دخول الوقود والماء والغذاء.
وبحثت العائلة عن امرأة وطفل مفقودين تحت ركام ستة منازل تعرضت للقصف الإسرائيلي، وبعد مرور 6 أيام من الجهد المتواصل دون جدوى اعتبرتهم في عداد الشهداء، نظراً لانهيار المباني بشكل كامل، وتحوّلت الجهود من آمال الإنقاذ إلى إخراجهما من تحت الركام لمواراتهما الثرى إلى جانب 30 فرداً من أقاربهم قضوا جراء غارات جيش الاحتلال على منازل العائلة والتي تكررت منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، كما يقول يحيى ضهير، أحد أفراد العائلة، والذي يعمل موظفاً في بلدية رفح، وشرح لـ"العربي الجديد" صعوبات البحث عن المفقودين تحت الأنقاض قائلاً: "طواقم الدفاع المدني والإنقاذ عملت على مدار يومين، وانتشلت 30 جثماناً في مواقع القصف الستة، لكنها اضطرت لمغادرة المواقع، والتوجه لأماكن قصفت حديثاً، على اعتبار أن هناك فرصة أكبر لإخراج ناجين من تحتها، بينما استمر متطوعو العائلة بالعمل 11 ساعة يومياً للبحث عن المفقودين، في ظل الخطر ونقص المعدات".
1700 بلاغ عن مفقودين
تلقت وزارة الصحة 1700 بلاغ عن مفقودين ما يزالون أسفل الأنقاض منذ بداية العدوان وحتى اليوم الثامن عشر من استهداف القطاع المحاصر، من بينهم 940 طفلاً، وفق ما أكده الناطق باسم الوزارة الدكتور أشرف القدرة، والذي يوضح أن احتمال وجود أحياء بين العالقين تحت الركام قائم، لكن الفرق تواجه صعوبات في إخراجهم، محذراً من وقوع مكاره صحية وانتشار للأوبئة جراء بدء تحلل الجثامين، خاصة في مناطق شمال وغرب مدينة غزة، حيث يتركز العدد الأكبر من المفقودين، لا سيما أن الفترة الحالية تشهد ذروة انتشار الفيروسات والأمراض المعدية، ما يزيد من مخاطر الوضع الصحي، وفق توضيحه لـ"العربي الجديد".
ويؤكد خمسة من النازحين من بيت لاهيا وبيت حانون شمال القطاع، والذين وصلوا إلى محافظتي رفح وخان يونس جنوباً، من بينهم عبد الله مطر، وإبراهيم عثمان، أنهم اشتموا رائحة تدلّ على تحلل جثث تحت الركام، خلال نزوحهم القسري في الثامن عشر من الشهر الجاري، بعدما قطعوا 11 كيلومتراً سيراً على الأقدام، ومرّوا على مئات المباني المقصوفة.
1700 بلاغ عن مفقودين تحت الركام منذ بداية العدوان الإسرائيلي
غير أن فصول المأساة لا تتوقف على ما سبق، إذ اضطرت أسر إلى الهرب من مناطق سكنها بسبب الغارات الإسرائيلية الكثيفة والمستمرة، دون أن يتسنى لها إخلاء مفقوديها، ومن بينها عائلة محمود أبو عبد الله التي نزحت من شمال القطاع إلى مركز إيواء في رفح، بعد ساعات من تدمير منزل العائلة، تاركة 3 مفقودين تحت ركام المنزل، الذي استهدف بغارات مكثفة حتى صار البقاء بالقرب منه أمراً شديد الخطورة، ولن تنسى العائلة ما بقيت، كما يؤكد أفرادها، أنه لم يكن في استطاعتها سوى إقامة صلاة الجنازة أمام الركام ثم الرحيل.
وصُعقت طواقم الدفاع المدني بحجم الدمار وعدد الجثث عقب عودة الاتصالات والإنترنت جزئياً إلى قطاع غزة بعد انقطاع استمر يومين عجزت خلالهما طواقم الإنقاذ عن القيام بعملها لعدم وصول نداءات النجدة من المواطنين، بحسب المتحدث باسم الجهاز في قطاع غزة الرائد محمود بصل، موضحاً أن الفرق انتشلت خلال ساعات صباح التاسع والعشرين من أكتوبر الجاري 30 جثماناً شماليّ غزة من تحت الأنقاض، وهناك عدد كبير من الشهداء ما زالوا تحت الركام حتى هذه اللحظة، لصعوبة الوصول إليهم، إذ تتعامل طواقم الدفاع المدني في الدقيقة الواحدة مع 20 استهدافاً على الأقل، وفي ذات الوقت يبلغهم المواطنون بوجود أصوات تحت الأنقاض، وهذا دليل على وجود أحياء، مناشداً ضرورة إدخال فرق إنقاذ مع آليات ثقيلة للمساعدة على انتشالهم.
الاحتلال يدمر إمكانيات الإنقاذ الهزيلة
دمر الاحتلال 4 مقرات للدفاع المدني، من بين 15 مقراً، واستشهد 12 من أفراده البالغ إجماليهم 100 عنصر، وبسبب تعاقب الغارات الإسرائيلية وآثارها المدمرة يواجه العناصر صعوبات كبيرة في الإنقاذ، كما يقول بصل، موضحاً أنه لدى تلقيهم إشارة بتعرض عمارة أو منزل للقصف، يتحرك العناصر والآليات إلى الموقع، وفي ذروة العمل تصل إشارة أخرى بقصف منزل آخر، ثم قصف ثالث ورابع، وهكذا، ولا توجد إمكانية للتعامل معها جميعها في ظل تناقص عدد أفراد الإنقاذ جراء استشهادهم، والآليات إما تتعطل أو تتعرض للتدمير بسبب القصف، فضلاً عن مشكلة نقص الوقود التي تعيق تحركها.
ودفع الوضع الكارثي مديرية الدفاع المدني لمناشدة أصحاب شركات المعدات والآليات الثقيلة مثل الجرافات، والشاحنات، والبواقر (جرافة متعددة المهام)، والرافعات، للتعاضد في هذه المحنة وتسخير المعدات لصالح عمل طواقمها التي تواجه صعوبات كبيرة في توفرها، وفق ما أكده بصل والمقدم محمد أبو جلمبو مسؤول وحدة الإنقاذ في الجهاز.
ويمتلك الجهاز 27 سيارة إطفاء و5 جرافات صغيرة وجرافتين متعددتي المهام مملوكتين لوزارة الأشغال وتم وضعهما تحت تصرف الدفاع المدني، وتضررت 12 آلية بشكل كامل أو جزئي بفعل الاستهداف الإسرائيلي، ويحاول العناصر الاستعانة بثماني آليات للبلديات، لكن عدم توفر الوقود يعيق الأمر، كما يقول أبو جلمبو، مضيفاً أنه لا يمكن تطبيق بروتوكولات الإنقاذ المتبعة عالمياً في حالات الكوارث والتي تعتمد على خطوات عدة، منها تقييم الموقع، وإدخال كلاب مدربة على مهام الإنقاذ، ثم تقييم حالة المبنى، والمرحلة الثالثة هي اختيار المعدات التي سيتعين استخدامها، بناء على تضاريس المنطقة، ثم المرحلة الرابعة وتتمثل بالمراقبة، وفيها يتم الحفر لإدخال كاميرا في الفراغات للتواصل مع العالقين.
ويتفق أبو جلمبو، وبصل، والمهندس عماد الحوراني، عضو مجلس إدارة نقابة المهندسين، على أنّ تطبيق البروتوكولات بحاجة إلى المعدات والفرق، والأهم من ذلك العمل بلا خوف من القصف، أو الاضطرار لترك الموقع والتوجه لآخر، وكل هذا لا يتوفر في غزة.
أحياء يصرخون من أجل الإنقاذ
بقيت عائلة ميمة في مدينة غزة على تواصل مع ابنتها الصحافية إسلام وزوجها وثلاثة من أبنائهم ثلاثة أيام وهم أحياء تحت الركام، يسمعون صوتهم وصرخاتهم، ويحاولون بكل الوسائل الوصول إليهم دون جدوى، بسبب وجود كتل خرسانية ضخمة منهارة، مكونة من الإسمنت والقضبان الحديدية وتحتاج من أجل إزاحتها أو تفتيتها معدات ثقيلة، منها جرافة الباقر المزوّدة بمطرقة لتكسير الصخور، بالإضافة إلى صعوبة العمل في الموقع الضيق، حتى فارقوا الحياة جميعاً، وجرى انتشالهم شهداء بعد أكثر من أسبوع، وفق إفادة ثلاثة من أفراد العائلة لـ"العربي الجديد".
وبينما ماتت عائلات تحت الأنقاض رغم استغاثتها وبقائها حية لأيام، نجا آخرون بعد إطلاق مناشدات عبر هواتفهم، وكان من حظهم أن تمكن أقاربهم أو الدفاع المدني من الوصول إليهم ورفع الأنقاض عن أجسادهم، ومن بينهم خالد الرملاوي، الذي استغل وجود هاتفه معه تحت الأنقاض، ليطلق مناشدة لكل من يستطيع إنقاذه وأولاده الذين علقوا تحت ركام متجر تجاري استهدفته طائرات الاحتلال الإسرائيلي. بالإضافة إلى إنقاذ الطبيبة دعاء أبو شقرة وأبنائها بنجاح من تحت الأنقاض بعد مراسلتها شقيقتها التي استعانت بالدفاع المدني والمتطوعين لإنقاذهم، بحسب الرسائل التي رصدها "العربي الجديد".
و"ينذر استمرار العدوان بكارثة حقيقية ويجعلنا عاجزين عن القيام بواجبنا ويفاقم الأزمة ويساهم بارتفاع أعداد الضحايا بشكل كبير"، كما يقول الرائد بصل، مطالباً بضرورة توفير مركبات إطفاء وإنقاذ، وتوفير أجهزة الكشف عن الأحياء تحت الأنقاض، إضافة إلى أجهزة وأقنعة تنفس، وتوفير طواقم إنقاذ مع معداتها أسوة بما يحدث خلال الكوارث على مستوى العالم، وهو ما يؤكد عليه العميد رامي العايدي، مُدير الدفاع المدني بالمحافظة الوسطى، والتي شهدت أعنف الغارات الإسرائيلية خلال الفترة الممتدة بين 18و24 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، موضحاً أن طواقم الدفاع المدني تسابق الزمن والقصف لانتشال الضحايا من تحت الأنقاض والركام؛ بينما لديها عجز كبير في الآلات الهندسية الثقيلة، ولا تملك الأجهزة الحرارية المستخدمة في الكشف عن الضحايا تحت الركام.
ومن أجل محاولة إنقاذ أكبر عدد ممكن من العالقين تحت الركام، فإن عملية الإنقاذ في ظل الظروف الحالية تتم عبر عدة مراحل يوضحها الحوراني، الأولى إزالة الركام الخفيف بواسطة جرافة تقليدية، وإزاحة الكتل الخرسانية الأقل وزناً، ثم التعامل مع الكتل الثقيلة، عبر تكسيرها وتجزئتها لتتمكن الجرافات من سحبها، مشيراً إلى أن كل متر مكعب من الخرسانة يصل وزنه إلى 2.5 طن، ما يعني أن وزن خرسانة سقف منزل مساحته نحو 150 متراً مربعاً يصل إلى حوالي 100 طن، وهي الأضخم مقارنة بأوزان الأعمدة، والجدران والبلاط، وغيرها من وحدات المبنى. ويؤكد الحوراني أن هذه العملية في ظل احتمال وجود أحياء تحت الركام تكون معقدة جداً، وتحتاج لأجهزة ولوقت في محاولة تحديد مواقعهم عبر طرق تقليدية، ليقوم فريق الإنقاذ بوضع خطة إنقاذ ميدانية تتلاءم وظروف وطبيعة الموقع.
دفن 250 شهيداً مجهولي الهوية في مقبرة خاصة شرق القطاع
وفي ظل قلة فرق الإنقاذ في غزة واضطرارها إلى الانتقال بين موقع وآخر، فإن جزءاً كبيراً من عمليات الإنقاذ والانتشال يتم من قبل أهالي الضحايا والمتطوعين، وهم غير مدربين أو مؤهلين لمهمات معقدة وخطرة كهذه.
وهو ما حصل مع عائلة زعرب التي تواصل البحث عن ابنها الثلاثيني موسى محمود زعرب، لكن وجود كميات كبيرة من الكتل الخرسانية يصعب عمليات الإنقاذ، وفق إفادة الصحافي عادل زعرب أحد أفراد العائلة، الذي أضاف أن نصف عمليات انتشال الضحايا من تحت الركام وعددهم 16 شهيداً نفّذها أفراد العائلة.
ويقول المتطوع أحمد ماضي، إنه جلب من منزله معدات بسيطة، عبارة عن شاكوش، وأزميل، وقضيب معدني، وتوجه للعمل في مواقع القصف، في محاولة لإخراج العالقين أو إنقاذ ناجين، وعمل حتى الآن في ثمانية مواقع برفقة عشرات الشبان، ونجحوا بجهود ذاتية في إخراج ثلاثة أحياء، أحدهم مر على وجوده تحت أنقاض المنزل المدمر أكثر من 30 ساعة، إضافة لعشرات الجثامين. قائلا: "نعمل على تحطيم كتل الخرسانة ونحدث فتحات فيها، ثم نبدأ ننادي هل هناك أحياء، بعد ذلك نعمل على قص شبكة القضبان الحديدية في كتلة الخرسانة، ونحدث فتحة وينزل شاب نحيف إلى الأسفل، ومعه بطارية إنارة ويبدأ البحث، ويواصل النداء عله يستمع إلى أي صوت لأحياء، ويبحث عن جثث أو أشلاء".
مقبرة الطوارئ
بلغ عدد جثامين الشهداء الذين لم يتعرف عليهم أحد 250 جثماناً، وظلت هوياتهم مجهولة، إما بسبب تشوه الجثامين وتقطعها، أو جراء استشهاد جميع أفراد الأسرة، وفق سلامة معروف رئيس المكتب الإعلامي الحكومي، ما اضطر الحكومة في القطاع إلى اتخاذ قرار بدفن الجثامين المجهولة في مقبرة طوارئ، أقيمت خصيصاً لهذا الغرض شرقي مدينة غزة.
وجرى إنهاء إجراءات دفن 43 شهيداً من مجهولي الهوية في التاسع عشر من الشهر الجاري، غالبيتهم أشلاء، وذلك بعد 6 أيام من دفن 100 جثة في ذات المقبرة، بعد اتخاذ الإجراءات اللازمة من وزارات الصحة والأوقاف، وبإشراف الطب الشرعي، ويؤكد معروف أن اتخاذ القرار بالدفن في مقبرة الطوارئ كان اضطرارياً، إكراماً للشهداء، في ظل وجودهم في الثلاجات منذ أيام، وعدم التعرف عليهم، وبدء تغير معالم الجثامين نتيجة تحللها.
وتبدو قسوة الحال في أمهات استشهدن بينما يحتضنّ أطفالهن، فاختلطت أشلاؤهم جميعا، بالإضافة إلى 3 أجنة خرجوا من بطون أمهاتهم المبقورة بفعل صواريخ الاحتلال، وبينهم أسر كاملة جرى تكفينها في كفن واحد لتحولهم لأشلاء متناثرة، بحسب معروف، مؤكدا أن جهات الاختصاص قامت بتوثيق وتصوير كل العلامات التمييزية لهؤلاء الشهداء وإعطائهم أرقاما، حتى يتسنى لأقاربهم التعرف عليهم لاحقاً.