اضطرت الممرضة الأميركية ليزا باركر، إلى طلب تبرعات لإجراء عملية جراحية لاستبدال الكتف، وذلك بعد إيقافها عن العمل في المستشفى الجامعي بولاية بنسلفانيا، بسبب عجزها الجزئي، ووضعها الصحي الذي يحتاج للعديد من العمليات الجراحية، وخشيتهم من دفع الكثير من المال لشركة التأمين، إذ تتراوح تكلفة عمليتها بين 7 إلى 21 ألف دولار أميركي، ويعود تفاوت التكلفة لاعتبارات عدة، منها مكان إجراء العملية والطبيب الجراح والأدوية المقدمة للمريض، وفق رواية باركر التي فقدت التأمين الصحي الذي كان يوفره المستشفى لها.
وما حظيت به الستينية باركر من ميديكير Medicare (وهو برنامج فيدرالي يدفع مقابل خدمات رعاية صحية معينة للمستفيدين المؤهلين)، لا يغطي سوى 80% من تكاليف علاجها، كما تقول لـ"العربي الجديد"، مضيفة أن النسبة المتبقية التي تتوجب عليها تغطيتها، باهظة.
ويستفيد من برنامج ميديكير من هم فوق 65 عاما ويمكن لبعض الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن ذلك، التأهل للحصول على الرعاية الطبية من البرنامج، بما في ذلك الأشخاص ذوو الإعاقة والذين يعانون من فشل كلوي دائم، فضلا عن بعض الامتيازات التي أضافها قانون الرعاية الصحية The Affordable Act Care، المعروف باسم "أوباما كير"، مثل تخفيض الأقساط التي تدفع لشركات التأمين شهريا، وفق ريك سانشاز، صاحب مؤسسة تعمل في مجالي الإعلام والموسيقى بكاليفورنيا، والذي تحدث عن تجربته الشخصية مع شركات التأمين الخاصة خلال عمله كموظف، ثم صاحب مؤسسة، قائلا لـ"العربي الجديد": "كان يترتب علي أثناء عملي كموظف دفع 50% من الاشتراك الشهري للتأمين في حين غطت الشركة الـ50% المتبقية، وكصاحب مؤسسة تصل قيمة ما أدفعه عن كل عامل إلى 14 ألف دولار سنويا، ترتفع بارتفاع خطورة العمل، وعمر العامل وسوء وضعه الصحي".
تأمين مبهم ورعاية صحية مكلفة
عجز باركر عن تسديد تكاليف العلاج يجعلها حتى في أشدّ حالات الألم تفكر مرتين قبل زيارة المستشفى، خشية من أن يكون مكوثها أقل من 5 أيام فتتحمل التكاليف كاملة وفق ما تقتضيه شروط تأمينها الصحي، وفق قولها، مضيفة أن فاتورة رقودها في المستشفى الجامعي بولاية بنسلفانيا، تضمنت بنودا غريبة، مثل أسماء لأطباء لم يعالجوها، وحين سألت أخبروها في المستشفى أن هؤلاء الأطباء دخلوا غرفتها! ما يعني أن المرضى يدفعون مقابل دخول أي طبيب إلى الغرفة حتى دون علاج، بحسب تأكيدها.
"كلفة العلاج في أميركا جنونية حتى مع وجود تأمين صحي"، تقول الطالبة القادمة من البرازيل، كريستينا فيرنانديز، مستذكرة حجم التكاليف التي كانت تدفعها للطبيب لمتابعة علاجها من مرض اضطراب الغدة الدرقية، قبل أن تحصل على تأمين صحي كطالبة بعد التحاقها بجامعة جورج واشنطن وتحويل تأشيرتها من سياحية إلى دراسية، وظنت أن مشاكلها المتعلقة بتأمين تكاليف العلاج قد انتهت بحصولها على التأمين، لكن مكوثها في المستشفى لمدة 12 يوما نتيجة مشاكل في الرحم ترتبت عليه تكاليف باهظة، إذ بلغت قيمة فاتورتها 85.386 دولارا، وبعد عدة طلبات تم خفضها إلى 57.877 دولارا، وهو مبلغ كبير جدا بالنسبة لطالبة مثلها، وفق قولها لـ"العربي الجديد".
ويفرض قانون العلاج الطبي الطارئ (EMTALA) الصادر عام 1986 على المؤسسات الصحية تقديم العلاج لأي شخص يصل إلى الطوارئ، بغض النظر عن حالة تأمينه وقدرته على الدفع، لكنّ المريض الخاضع للعلاج في الطوارئ لا يُعفى من تسديد التكاليف إن كان غير مؤمن، وفق المصادر الذين قابلتهم معدة التحقيق، ومن بينهم سانشاز الذي يؤكد أن المستشفى يقدم الرعاية الصحية للمريض ثم يتفق معه على آلية لتسديد التكاليف بعد تعافيه. وقد تصل تكلفة العلاج في طوارئ المشافي إلى 2200 دولار، بحسب شركة يونايتد هيلث كير United HealthCare (أكبر شركة تأمين صحي في الولايات المتحدة الأميركية).
وتمتلك الولايات المتحدة نظام تأمين مبهماً يشوبه الكثير من التفاصيل التي يصعب على المريض فهمها، حتى حين يطلب من شركة التأمين توضيحات في حالة التعامل مع المستشفيات والأطباء يتفاجأ ببنود ونقاط لا يعرفها، بحسب سانشاز. ووفقا لاستطلاع رأي نشرته مؤسسة فايننشال بيند Bend Financial (تساعد الشركات والأفراد على إدارة التكلفة المتزايدة للرعاية الصحية) في الثالث من فبراير/ شباط 2012، فإن 56% من 2000 شخص شملهم الاستطلاع أكدوا على عدم فهمهم لتأمينهم الصحي، وقال أكثر من نصف المستجوبين الذين لديهم تغطية رعاية صحية حالية، إنهم يهدرون 111 دولارا شهريا، بسبب عدم فهمهم لما يغطيه تأمينهم الصحي.
إفلاس بسبب تراكم الديون في أميركا
بلغت قيمة الفواتير الطبية غير المسددة العام الماضي في أميركا 140 بليون دولار، بحسب دراسة نشرتها مجلة الجمعية الطبية الأميركية في 20 يوليو/ تموز 2021، بعنوان "الديون الطبية في الولايات المتحدة من 2009 إلى "2020، مبينة أن 17.8% من الأميركيين عانوا من تراكم الديون الطبية في 2020.
وبسبب تلك الفواتير الطبية، تتقدم سنويا 530 ألف أسرة أميركية بطلب إفلاس، كما أن الفواتير الطبية مسؤولة عن 66.5٪ من حالات الإعسار الشخصية، بحسب إحصائيات نشرت على موقع "زِن كل شيء" Balancing everything (متجر إلكتروني للحصول على معلومات متعلقة بالتمويل) في 21 يونيو/ حزيران 2021.
معاناة المرضى الناتجة عن تراكم الديون، دفعت أخصائي الأورام الأميركي من أصول باكستانية، عمر عتيق، إلى إعفاء 200 مريض يتلقون العلاج في مركز آركنسا لعلاج السرطان في مدينة باين بلاف بولاية أركنساس جنوب شرقي الولايات المتحدة، من ديونهم مطلع العام الجاري، قائلا في رسالة موجهة لهم خلال احتفالات رأس السنة: "تشرفت عيادة أركنساس للسرطان بخدمتكم كمرضى، رغم أن شركات التأمين تتكفل بنسبة كبيرة من التكاليف لغالبية المرضى، فإن ما تتحملون مسؤوليته يبقى عبئا عليكم. لسوء الحظ هذا هو نظامنا الصحي، قررت العيادة مسح جميع ديون مرضاها".
ويقول عتيق الذي أعفى مرضاه من دفع 650 ألف دولار، أن النظام الصحي الأميركي يفرض تكاليف مرتفعة على المرضى، معتبرا القلق الذي يساور المرضى لدى دخولهم غرف الطوارئ خوفا من عدم قدرتهم على دفع مستحقات العلاج "غير مقبول"، ويعيد ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية لعدة أسباب على رأسها تضاعف أسعار الأدوية، وارتفاع أجور الطواقم الطبية، مؤكدا أن تغيير الوضع يحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية لإصلاح النظام الصحي، والحيلولة دون انتشار الأمراض.
ورغم "إنفاق الولايات المتحدة 4.1 تريليونات دولار على الرعاية الصحية في عام "2020، وفق موقع الشؤون الصحية (وهي منظمة عالمية للصحة والإغاثة الإنسانية)، إلا أنها تأتي في المرتبة الأخيرة (من بين 11 دولة ذات دخل مرتفع) في الوصول إلى الرعاية، والكفاءة الإدارية، والإنصاف، ونتائج الرعاية الصحية، بينما صنفت النرويج وهولندا وأستراليا الأفضل أداء بشكل عام، وفق دراسة أجراها صندوق الكومنولث الدولي (منظمة بحثية خاصة لتحسين الخدمات الصحية) في 4 أغسطس/آب 2021، بعنوان "مرآة، مرآة 2021: تعكس بشكل سيئ الرعاية الصحية في الولايات المتحدة مقارنة بالبلدان الأخرى ذات الدخل المرتفع".
وتتميز البلدان الأفضل أداءً عن الولايات المتحدة بأربع سمات، هي توفير تغطية شاملة وإزالة حواجز التكلفة، والاستثمار في أنظمة الرعاية الأولية لضمان توفر الخدمات عالية الكلفة في جميع المجتمعات لجميع الناس بشكل منصف، وتخفيف الأعباء الإدارية التي تصرف الوقت والجهد والإنفاق عن جهود تحسين الصحة، كما يستثمرون في الخدمات الاجتماعية، وخاصة للأطفال والبالغين في سن العمل، بحسب المصدر نفسه.
المصالح قبل الإصلاح
الأداء في مجال الرعاية الصحية بالولايات المتحدة، انعكس على ارتفاع الوفيات بسبب الأخطاء الطبية في المستشفيات والعيادات، إذ "يتوفى 100 ألف شخص سنويا بسببها، كما تكلف الأخطاء الطبية حوالي 20 مليار دولار في السنة، وفق دراسة "الحد من الأخطاء الطبية والوقاية منها" المنشورة على موقع المركز الوطني لمعلومات التكنولوجيا الحيوية (NCBI) في السادس من أغسطس/ آب الماضي.
وتوفت 754 امرأة خلال الحمل والولادة في عام 2019، في حين شهد العام 2018 وفاة 658 سيدة، وفق تقرير "معدلات وفيات الأمهات في الولايات المتحدة 2019" المنشور في موقع المركز الوطني للإحصاءات الصحية في إبريل/ نيسان 2021.
وقدر تقرير "وفيات الأمهات والرعاية الصحية في الولايات المتحدة مقارنة بعشر دول متقدمة" الصادر عن صندوق الكومنولث في أكتوبر/تشرين الثاني 2020، معدل الوفيات وسط الحوامل بـ 17.4 لكل 100 ألف حالة، في حين تسجل ألمانيا، والنرويج وهولندا أقل من 3 وفيات لكل 100 ألف حالة.
وتعلق ساندرا أل واشنطن، التي عملت في قطاع الصحة لسنوات، وتحضر لإطلاق منظمة غير ربحية تخدم المرضى في ولاية شيكاغو، على ذلك بالقول، إن وجود هذا النظام الصحي الفوضوي مرتبط أشد الارتباط بالطبيعة السياسية للولايات المتحدة، مضيفة لـ"العربي الجديد": "هذا الوضع سيبقى على ما هو عليه حتى يصوت الشعب على ما يتوافق مع معتقداته، وليس على توجهات الأحزاب السياسية التي تعمل ضد ضمان حق العلاج للجميع".
ويمتلك أكثر من ثلث أعضاء الكونغرس أصولا مالية كبيرة في مؤسسات وشركات الرعاية الصحية في الولايات المتحدة، بقيمة إجمالية تزيد عن 43 ألف دولار للعضو الواحد خلال الفترة من عام 2004 حتى 2014"، وفق دراسة أجراها باحثون من المستشفى الجامعي لولاية بنسلفانيا، ونشرت على الموقع الإلكتروني للجامعة في 9 أغسطس/آب 2021، بعنوان "يمتلك أكثر من ثلث أعضاء الكونغرس أصولا مالية كبيرة متعلقة بالرعاية الصحية"، والتي توصي المشرعين بسحب أسهمهم المستثمرة في القطاع الصحي أثناء خدمتهم، لأن ذلك يؤثر على قراراتهم المتعلقة بصياغة السياسات الصحية.
وتؤكد الدراسة ذاتها، أن تصويت أعضاء الكونغرس قد يساعدهم في تحقيق مكاسب مالية على حساب إحداث تغييرات في سياسة الرعاية الصحية".
وللتأثير على سن قوانين الرعاية الصحية وأولويات الإنفاق، تتبرع 31 شركة صيدلانية بأموال لأعضاء الكونغرس سنويا، إذ وصلت قيمة الأموال الممنوحة لهم خلال الفترة من عام 2007 حتى 2022، إلى 484 ألفا و500 دولار، وزعت على 65 عضوا ونائبا بالكونغرس، منهم النائبة الديمقراطية عن ولاية كاليفورنيا آنا إيشو التي حصلت على 23.500 دولار، والنائب الجمهوري عن ولاية تكساس ميخائيل ك. بورغس، الذي حصل على 18.500 دولار، وفق دراسة نشرت على موقع مؤسسة عائلة قيصر في 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، بعنوان "شركات الأدوية تدفع للكونغرس" Pharma Cash to Congress.
28 مليون أميركي بلا تأمين صحي
خلال عام 2020، افتقد 28 مليون أميركي لأي نوع من التأمين الصحي، بحسب تقرير نشره مكتب تعداد الولايات المتحدة التابع لوزارة التجارة في 14 سبتمبر/ أيلول 2021، بعنوان "تغطية الدخل والفقر والتأمين الصحي في الولايات المتحدة: 2020"، موضحا أن معدل الفقر الرسمي في 2020 بلغ 11.4% بزيادة مقدارها 1.0% عن عام 2019.
كما يحرم المهاجرون غير الشرعيين في الولايات المتحدة من التأمين الصحي، لأن ذلك يتطلب حيازة رقم ضمان اجتماعي، حسب ما يقوله المحامي الأميركي من أصول مصرية، محمد الشرنوبي، مختص بقضايا الهجرة والتجنّس، ولديه مكتب محاماة في سان دييغو جنوب ولاية كاليفورنيا، مستدركا لـ"العربي الجديد": "في حال امتلك المهاجر رقما عبر البرامج الفيدرالية يمكنه الاستفادة من التأمين الصحي، مثل برنامج داكا أو الحالمين الذي أصدره أوباما واستفاد منه 649 ألف مهاجر، ممن هم دون الثلاثين عاما، ووصلوا إلى أميركا في طفولتهم بطريقة غير نظامية، وكان منحهم أرقام ضمان اجتماعي ضرورياً للحصول على عمل أو رخصة قيادة أو للدراسة فيها، غالبيتهم من الذين ولدوا في المكسيك وغيرها من دول أميركا اللاتينية".
الافتقار للتأمين وارتفاع تكاليف العلاج، يدفعان المرضى إلى الاستعانة بمفاوضين لديهم خبرة في مجال المالية والإجراءات الإدارية بالمؤسسات الصحية، للوصول إلى نتائج أقوى بشأن تكاليف العلاج، بحسب ديرك فيترون، الذي يعمل لمساعدة المرضى في دفع مستحقات أقل، من خلال مكتبه في ولاية نيوجرسي.
ويعمل فيترون، على تسهيل الإجراءات العلاجية للقادمين من دول أخرى لتلقي العلاج في أميركا، من خلال اختيار المؤسسة الصحية والحصول على تأمين، قائلا إن الأفضل للمرضى الاستعانة بمفاوض جيد حتى لا تستغلهم المؤسسات الصحية ماليا، أو تمتنع شركات التأمين عن خدمتهم لعلمها بحالتهم الصحية وتكاليف علاجها، مضيفا لـ"العربي الجديد" أنه يعمل حاليا على فاتورة لمريض هندي توفي بمرض السرطان في أميركا أثناء تلقيه العلاج، وبلغت قيمة الفاتورة التي تلقتها عائلته بعد وفاته 350 ألف دولار.